في آخر أبريل هذا العام، أعلنت لجنة الأخلاقيات التابعة للحكومة اليابانية أنها تعطي الموافقة للعلماء كي يقوموا بـ”تحرير جينات” الأجنة، فعادت ضجة الزوبعة التي ما كادت تهدأ، منضمة إلى المملكة المتحدة التي كانت أول حكومة في العالم تعطي موافقة حكومية لباحثيها للقيام بتحرير جينات الأجنة، وهذا، يفتح من جديد ملف القمة التاريخية التي حدثت أواخر العام الماضي، ها نحن نستعد لنشوب المعركة ثانية بين العلماء، وهي المعركة التي كان العدو والصديق فيها، هذه الكلمة الغامضة: “كريسبر” !
لماذا أحدثت “كريسبر” فوضى لم تثرها أي هندسة وراثية أخرى؟
لا أحد مستعد بعد لعصر يصبح فيه تعديل الحمض النووي مثل مستند في برنامج “مايكروسوفت وورد” كما يقول فيفيك واداوا الباحث في جامعة ستانفورد. الهندسة الوراثية ليست شيئاً جديداً، الجديد هو تكنولوجيا “كريسبر” التي جعلت التلاعب في شفرة الحياة في الخلايا الوراثية بالغ السرعة والسهولة، وهو الشئ الذي لن يؤثر على جيل واحد، وإنما سيؤثر على كل الأجيال القادمة. العالم كان يدرك بوضوح أنه إزاء ثورة، للدرجة التي دفعت مئات العلماء وصانعي السياسات والمستشارين العلميين للرؤساء للطيران من جميع أنحاء العالم، لمناقشة أمرها في قمة تاريخية عقدت في واشنطن في الأيام من 1 إلى 3 ديسمبر من العام الماضي.
التغطية الإعلامية لهذه التكنولوجيا التي سببت كل هذه الضوضاء مع إن عمرها لا يزيد عن أربعة أعوام، تعطي إنطباعاً مبالغاً فيه بالسهولة للدرجة التي توحي بأن أي شخص يستطيع تعديل الجينات في جراج بيته، لكن الحقيقة إن أي شخص يحتاج إلى المعمل الحديث والمهارات اللازمة كي يستطيع أن يتلاعب بجينات معينة في النبات أو الحيوان.
لكن هذه التكنولوجيا عبرت الخط الأحمر في أبريل العام الماضي، عندما أعلن علماء صينيون أنهم أول من يتلاعب بجينات أجنة بشرية في العالم بفضل هذه التقنية، ليصاب العالم بالصدمة.
شرطة ولصوص هاربون: أسهل طريقة لفهم “كريسبر”
إذا كان لدى الشرطة مطلوبين خطرين، فإنها تضع صورهم على حوائط المدينة، وهو نفس ما تفعله البكتيريا عندما تضع معلومات في جيناتها تشبه الفيروسات الخطرة عليها. البكتيريا أيضاً لديها إنزيم يسمى “كاس9″، وهو يستطيع قراءة هذه المعلومات، ثم يفتش بعينيه عن المشتبهين في البيئة المحيطة به، ما إن يجد أحدهم، حتى يقوم بتقطيع الحمض النووي الفيروسي الخاص به، العلماء استلهموا من البكتيريا أن هذه الطريقة يمكنها أن تقطع أي حمض نووي، وليس الحمض النووي الفيروسي فحسب، ومن هنا ولدت تكنولوجيا استخدام هذا الإنزيم في مختبرات ماساتشوستس بكاليفورنيا، لقطع الجينات بشكل دقيق في النبات والحيوانات، لكن ما يزال حتى الآن هناك جدل قانوني شديد حول الفريق الحقيقي الذي تعود إليه براءة هذا الاختراع، لذلك لا يمكن لأحد تأكيد صاحبه على وجه الدقة.
تراشق النظريات: بين سيناريوهات اليوتوبيا والجحيم
حالة الخوف من تجربة العلماء الصينيين، مع إنها كانت على أجنة غير قابلة للحياة، كانت بسبب قلق العلماء من سهولة الانزلاق من تحرير جينات الأجنة في أنابيب المختبر، إلى زرعها في رحم النساء، لنتفاجأ بـ”بشر مصنوعين”، يتم التحكم في ذكائهم وقوتهم البدنية وحتى ملامحهم الجمالية، ويمررون هذه المادة الوراثية إلى الأجيال التالية، وبذلك يكون “تلاعباً في الإرث الإنساني كله”، كما قال رئيس القمة ديفيد بالتيمور من معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا في مقدمته.
المدافعون عن التكنولوجيا استندوا إلى كونها تستطيع منع الأزواج من تمرير الجينات المختلة إلى أطفالهم، بأن يقوموا بعملية أطفال الأنابيب ويصلحوا الجينات غير السليمة، لكن المنتقدين قالوا إن الزوجين المعرضين لتمرير خطر معين إلى أطفالهم، يمكن أن يقوموا بعمل أطفال أنابيب وانتقاء الطفل السليم وزرعه في الرحم دون حاجة للعبث في جينات الجنين، لأن هذا طريق بلا رجعة.
مارسي دارنوفسكي عالمة الأخلاقيات كانت قد حذرت من خطر كريسبر على المجتمع، الذي سينقسم إلى أبناء الأغنياء المعدلين جينياً كي يصبحوا أكثر ذكاء وصحة وجمالاً، بينما يترك أبناء الفقراء لنواقصهم حتى ينقرضوا.
اليوم الافتتاحي للقمة بدأ بجلسة عن السياق التاريخي للقمة، تحدث فيها مدير مكتبة الإسكندرية، المؤرخ المصري إسماعيل سراج الدين، قائلاً أننا “نلعب الآن دور الإله أكثر من أي وقت مضى، منذ استئناس الإنسان للنباتات والحيوانات”، بحسب رأيه، أما المؤرخ دانييل كيلفيس فقد تكلم عما فعله النازيون باسم “تحسين النسل”، ليقوموا بالتطهير العرقي، وهو بهذا التذكير ينقل خوف العلماء من نازية جديدة، تستخدم كريسبر لاصطفاء جنسها وإفناء الـ”أجناس المنحطة” من السلسلة الوراثية البشرية.
رئيس القمة أعاد للعلماء ذكريات العام 1975، عندما حدث اجتماع تاريخي مشابه، بعد التوصل لتكنولوجيا لصق الحمض النووي من كائن حي إلى آخر، لإيجاد اتفاقية تضمن الأمان لكلاً من الباحثين العاملين على هذه التكنولوجيا، وعلى الطبيعة أيضاً.
النقاش المحتدم والمثير الذي استمر لمدة ثلاثة أيام بين العلماء، والمحامين وعلماء الأخلاقيات، انتهى إلى فرض حظر على تخطي مرحلة تعديل الأجنة البشرية في الأنابيب، إلى زرعها في رحم النساء، وتحولها إلى بشر، لكن باول نيوفلر عالم الأحياء الخلوية في جامعة كاليفورنيا قال إنه يشعر بالإحباط من النتيجة التي وصل إليها المؤتمر، فمع أن الكثير من المنظمين أجمعوا على أن التلاعب بجينات الأجنة هو شئ غير مسئول، إلا إنه لا يفهم لماذا لم يوقفوا تجارب التلاعب في المختبر، مع أنه لا يرى لذلك أثر سلبي، لقد كان ينتظر موقفاً أقوى من ذلك.
هذه الزوبعة المتجددة تتركنا كل مرة تحت رحمة سؤال محوري وخطير: هل من الوارد أن يكون هناك شخص مختبئ الآن في مختبر خفي يخترق هذا الحظر وهو يضحك بخبث، لنكتشف فجأة أشخاصاً مصنوعين فيما بيننا؟