في رأي جميع الخبراء، فإن نموذج التنمية الذي اعتمده المغرب لمدة ثلاثة عقود بلغ مداه، وهو أمر أكده الملك محمد السادس، وعين لجنة لإعادة التفكير وصياغة تصور جديد أكثر فعالية وكفاءة.
من المؤكد أن النموذج الحالي مكّن المغرب من مضاعفة الناتج المحلي الإجمالي في أقل من عقدين، لكنه ظل دون الطموحات فيما يتعلق بمكافحة الفقر، وتوظيف الشباب، وتعزيز قدرات الطبقة المتوسطة، وتقليص الفجوات بين الأغنياء والفقراء وبين المناطق.
بالإضافة إلى ذلك، لا يزال المغرب بعيدا عن الاندماج الكامل لاقتصاد المعرفة، مما يخلق قيمة وثروة مضافة، وكان أكبر تحَدٍ واجهه المغرب خلال العقدين الأخيرين هو عدم القدرة على تحقيق نسبة نمو تقارب الستة في المائة رغم المجهود الاستثماري العمومي والذي يناهز عشرين مليار دولار في السنة، ورغم تدفق الاستثمارات الأجنبية والتي تبلغ حوالي ثلاثة مليارات دولار سنويا، ورغم الاستثمار الداخلي الخاص والذي قد يصل إلى حوالي 10 مليارات دولار (حسب تقديرات بعض الاقتصاديين).
كما يظل العائد على الاستثمار في تكوين الثروة وفرص العمل منخفضا مقارنة بالدول الأخرى التي تنفذ جهدًا استثماريًا مشابهًا، ولم ينتج العقيدة الملكية “للاقتصاد الهزيل” الثمار التي يتوقعها الليبراليون الجدد.
إن الحوافز الممنوحة لرأس المال لم تقم بتصفية الوظائف والثروة نحو الطبقات المتوسطة والضعيفة! بالإضافة إلى ذلك، لم تكن الخيارات الاستراتيجية لربط الاقتصاد بأوروبا تهدف إلى بناء شراكة متساوية وعادلة!
في الواقع، خلقت هذه الاختيارات اعتمادا هيكليا منذ أن عمل الاقتصاد المغربي من جهة كمورد للمواد الخام والمنتجات الزراعية وقطع الغيار، ومن ناحية أخرى بمثابة الفناء الخلفي لسياسات النقل إلى الخارج.
كان أداء “الشراكة” مع أوروبا في تعزيز النسيج الصناعي الوطني وظهور اقتصاد وطني قوي يلبي احتياجات المجتمع من حيث الثروة والتوظيف ضعيفا.
إن النمو الخجول للاقتصاد المغربي (بالكاد يتجاوز الفاتورة البيئية التي تقدر بـ 3.7٪ من الناتج المحلي الإجمالي سنويا) يرجع إلى تقرير البنك الدولي (المغرب بحلول عام 2040 – الاستثمار في رأس المال غير المادي للتعجيل ظهور اقتصادي) إلى اعتماد شبه كامل على رأس المال الثابت لنموه!
رأس المال الثابت هو 5 ٪ من الناتج المحلي الإجمالي، ولكن لتحقيق نمو مستدام من 6 إلى 7 ٪ من الاقتصاد، يجب أن يصل رأس المال هذا إلى 50 ٪ من الناتج المحلي الإجمالي، وهو أمر غير مستدام لأن المدخرات لا تتجاوز 30 ٪ من الناتج المحلي الإجمالي؛ لا يمكن البحث عن 20٪ المتبقية في الديون دون تعريض الميزان الهش لميزان المدفوعات (على الرغم من العجز).
لتحقيق نمو أكثر، يقترح البنك الدولي دعم توسيع سوق الشغل لينتقل من 46 في المائة إلى 56 في المائة عبر الاستثمار في الرفع من قدرات النساء (التي لا تتعدى نسبة مساهمتهن في سوق الشغل 23 في المائة) وعبر خلق ليونة أكثر في مسلسل التشغيل، وهذا يقتضي دعم التقاول والتقاول الاجتماعي والدورات التدريبية المؤدى عنها من طرف المشغلين، والشغل المؤقت، والشغل عن بعد، والمستخدمين الذاتيين ودعم المقاولين الذاتيين والمقاولات الصغرى والاستثمار في القطاعات المشغلة مثل الخدمات والتجارة والسياحة والتكنولوجيا والصناعة الثقافية والفنية وغيرها، حيث أن توسيع سوق الشغل من شأنه أن يعطي المغرب إمكانية تحقيق نقطة إضافية على مستوى مؤشر النمو.
مقالات شبيهة:
المغرب يستعد لرفع ممنهج للحجر الصحي…فهل انتصر على فيروس كورونا؟
مسافر في زمن كورونا؟ إليك هذه الإرشادات المهمة لضمان عدم اصابتك بالعدوى
ويقترح البنك الدولي كذلك الاستثمار في الرأسمال اللامادي، أي المؤسسات والرأسمال الاجتماعي والمعرفي.
الرأسمال اللامادي يعني أولاً، الاستثمار في دعم المؤسسات لتحقيق العدالة والشفافية في الولوج للمعلومة والرأسمال والعقار؛ وثانيا، دعم الرأسمال الاجتماعي المتمثل في العمل التطوعي والجمعوي والحقوقي وتأهيل العنصر البشري خصوصا المرأة والشباب لينخرطوا أكثر في الدورة الاقتصادية.
ثالثاً، الاستثمار في اقتصاد المعرفة وبناء الجامعات ومراكز البحث وتأهيل المجتمع عبر المدرسة والجامعة ليبتكر ويخلق ويصنع ويجد الحلول (تماماً كما يقع حالياً في زمن كورونا)، وهذا الاستثمار من شأنه أن يعطي الاقتصاد الوطني نقطة إضافية على الأقل على مستوى النمو الاقتصادي.
وقال لحسن حداد، وهو خبير لدى البنك الدولي وبرلماني ووزير مغربي سابق، أن نقطتين إضافيتين أخريين يمكن الحصول عليهما، أولاً من اعتماد لا مركزية ناجعة وفعالة تستثمر بشكل ذكي في دعم إمكانيات الجهات (المناطق) والدفع بها لتلعب دور أقطاب اقتصادية جهوية لها خصوصياتها ونقط قوتها ودورها على المستوى المحلي والوطني.
التخفيف من الكلفة البيئية، والمُقَدَرة حاليا بـ3.7 في المائة، عبر الاستثمار في الاقتصاد الأخضر والطاقات المتجددة، وتجديد منظومة الحكامة لتحديد الأدوار والمسؤوليات والوسائل بشكل واضح، وهذا من شأنه أن يؤدي إلى نجاعة أكبر في تدبير الموارد، وإعادة توزيع عادلة للثروة تعطي للطبقات المتوسطة والسفلى القدرات والإمكانيات للاستهلاك والمساهمة بشكل أكبر في الدورة الاقتصادية.
وأضاف الحداد أن على البلاد استغلال فرصة التعبئة ورجوع روح التضامن وارتفاع منسوب الثقة من أجل الإسراع بوضع تصور جديد وتنفيذه، وعلى أي نموذج اقتصادي جديد أن يأخذ بعين الاعتبار مستجدين اثنين لا محيد عنهما بالنسبة للمغرب ولكثير من الدول: الأمن الصحي والأمن الغذائي.
وألح على ضرورة تطوير قاعدة تكنولوجية وبنية تحتية متطورة لصناعة وطنية معتمدة على مزايا الثورة الصناعية الرابعة والرقمنة، وقد أظهرت تجربة كورونا الإمكانيات المهمة التي يتوفر عليها المغرب في هذا الإطار.
والعمل مع الشركاء الأوروبيين على لعب دور متطور على مستوى سلاسل التزود، ففي زمن كورونا، أدركت أوروبا خطر اعتمادها على سلاسل الإنتاج الصينية وكلفة البعد الجغرافي، ويمكن للمغرب لعب دور مزود لقطع الغيار دون كلفة سياسية ودون كلفة شحن عبر آلاف الكيلومترات
أخيراً، العمل على استثمار الثقافة التضامنية التي أبان عنها المغاربة، لوضع نموذج اقتصادي جديد مبني على التضامن والإنتاج المحلي والمنصات التجارية والرقمية المحلية، وعلى فلاحة مستديمة وخضراء، وعلى تثمين الموروث الثقافي المحلي، وعلى تدبير عقلاني ومتجدد للموارد، وبالتالي لا يجب تفويت هذه الفرصة لخلق المجتمعات المتضامنة والمستديمة والعادلة المنشودة.