إذا قام رائد فضاء بحمل وعاء زجاجي نصف مملوء بالماء في بيئة جاذبية قريبة من الصفر في الفضاء، فكيف سيبدو الماء داخل الجرة؟ هل سيأخذ شكل كرة ويطفو، أم سيبقى في الجزء السفلي من الجرة، أو يتشبث على جدرانها؟
على مدى عقود، لم يمتلك أحد إجابة شافية لهذه الأسئلة، ولكن الآن ينوي الباحثون في جامعة تورنتو بكلية العلوم التطبيقية والهندسة على حل هذا اللغز إلى الأبد.
الجواب الصحيح ليس بديهياً جداً، حيث يقول (ارون بيرساد)، وهو زميل ما بعد الدكتوراه في قسم الهندسة الميكانيكية والصناعية، بأننا بحاجة إلى حل سلسلة من المعادلات الحرارية للتنبؤ بالترتيب الذي سيكون الأكثر استقراراً بالنسبة للماء، وقد أطلق هو والأستاذ الفخري (تشارلز وارد) تجربة على متن (سبيس اكس) CSR-9 من قاعدة كيب كانافيرال، فلوريدا، توجهت إلى محطة الفضاء الدولية (ISS)، حيث سيقوم هناك رواد الفضاء بالقيام بالتجربة والتقاط الصور والفيديو لجرة زجاجية مملوئة بالمياه النقية.
قد يبدو الأمر وكأنه مشكلة بسيطة، ولكن لتحديد سلوك الماء في الفضاء تأثير سلبي كبير على تصميم نظم دعم الحياة لدى رواد الفضاء، ففي 16 تموز من عام 2013، تسبب انسداد في جهاز التصفية إلى تكوم ما يقرب من 1.5 لتر من الماء على وجه وخوذة رائد الفضاء الإيطالي (لوكا بارميتانو) خلال تنفيذه لعملية سير في الفضاء، مما أدى إلى حجب رؤيته ومنعه من السمع والتنفس، وهذا اضطر طاقم الرحلة إلى إحباط العملية وإعادة رائد الفضاء إلى بر الأمان.
كان (وارد) يحاول حل لغز سلوك الماء في الفضاء منذ نحو 20 عاماً، وقد توقعت حساباته الحرارية أن الماء إذا كان محصوراً في حاويات اسطوانية قصيرة، سيعلق على الجدران ليترك فقاعة كروية من البخار في الوسط، أما إذا وضع في حاويات أطول، فإن الماء سيميل إلى التجمع في كلا طرفي الحاويات مما يترك فجوة من البخار في المنتصف، وقد أطلق وارد على الاحتمال الأخير اسم “التكوين ذو الواجهة المزدوجة” (double-interface configuration).
لكن (وارد) واجه وقتاً صعباً في الدفاع عن توقعاته، حيث أشار أن زملاءه لن يصدقوا بأن التكوين ذو الواجهة المزدوجة سيكون مستقراً بما يكفي، لذلك كان لا بد من إجراء التجربة في الفضاء.
طلب (وارد) من جناح جامعة تورنتو لنفخ الزجاج إنشاء العديد من الجرر الزجاجية بمختلف الأحجام، وبعد ذلك ملأ نصفها بالماء النقي، مع الحرص على إفراغها من الهواء تماماً قبل إغلاقها، وفي عام 1997، حلقت الجرار إلى المحطة الفضائية الدولية على متن مكوك الفضاء كولومبيا، ولكن للأسف كانت النتائج غير حاسمة.
تبعاً لـ(وارد): “كان علينا استخدام المعدات والموارد التي كانت متوافرة لنا في ذلك الوقت”، حيث كانت الكاميرا التي صورت الفيديو، من نوع VHS 8MM، وكانت منقطة وضبابية، لذلك، فقد ترك الشريط مجالاً للمشككين للتمسك بشكوكهم.
في عام 2008 اكتشف (بيرساد)، الذي كان آنذاك مرشحاً لنيل درجة الدكتوراه تحت إشراف (وارد)، تلك الجرار أثناء تنظيفه للمختبر، وعلى الرغم من أن (وارد) حثه على رميها لأنه لم تعد هناك حاجة إليها، إلّا أن (بيرساد) خبأها بدلاً من ذلك، وأصبح مفتوناً بالتجربة وبدأ يبحث عن وسيلة للقيام بها مرة أخرى باستخدام معدات أفضل من شأنها أن تؤدي إلى نتيجة أكثر يقيناً.
جاءت الفرصة في عام 2013 في شكل مشروع ممول من وكالة ناسا يسمى “قصة الوقت من الفضاء”، وكان المشروع يهدف لرؤبة رواد الفضاء وهم يعملون في محطة الفضاء الدولية ويسجلون شرائط فيديو تعليمية، بتم اختيارها من قبل رائد الفضاء الكندي المخضرم الدكتور (بيارني تريغفاسون)، ليتم بعد ذلك تدريسها في الفصول الدراسية في جميع أنحاء العالم، وقد كان (تريغفاسون) و(وارد) قد خاضا في نقاش طويل حول نتائج تجربة عام 1997، ولذلك دعى (تريغفاسون) كلاً من (وارد) و(بيرساد) لإرسال التجربة إلى الفضاء مرة أخرى.
قام (بيرساد) بتصميم جهاز محسن لهذه التجربة، وإرفاق كاميرا من نوع (GoPro) تم تعديلها لالتقاط صور عالية الدقة والفيديويات من شأنها أن تثبت أو تدحض نظرية (وارد).
يمكن لنتائج التجارب الفضائية أن يكون لها تطبيقات مفيدة على الأرض أيضاً، فتبعاً لـ(بيرساد): “في هذه الأيام، أصبح هناك اهتمام متزايد في علم الموائع النانوية، وهو الأمر الذي يتمحور حول فهم سلوك السوائل في قنوات أرق بـ10,000 مرة من خصلة الشعر البشري”، وأضاف: “في مثل هذه المقاييس الصغيرة، يكون تأثير الجاذبية في حده الأدنى، وبالتالي فإن السوائل تتصرف على غرار ما نراه في الفضاء”.
مع هذه الانطلاقة، بدأ (بيرساد) بالتجضير لإطلاق تجربته على متن صاروخ مهمة (سبيس اكس) (CRS-7)، ولكن هذه المهمة انتهت بانفجار الصاروخ بعد وقت قصير من انطلاقه، وتدمير عمله معه، ولكن على الرغم من الصدمة التي شعر بها لدى سماعه لخبر الانفجار، إلّا أنه وفي اليوم التالي بدأ في إعادة بناء التجربة، وإنتاج نسخة جديدة منها في أربعة أشهر فقط، وإذا ما انفجرت هذه النسخة أيضاً، فإنه مصمم على إعادة المحاولة مرة أخرى، كما يقول.
على الرغم من كل التأخير والنكسات، لا يزال (بيرساد) متفائلاً، ويعتقد أن البيانات التي ستأتي من الصور ومقاطع الفيديو ستكون بمثابة منارة لكل من الباحثين والطلاب على حد سواء، فبعد 20 عاماً، سيكون أمراً رائعاً أن نحصل على جواب لهذا السؤال أخيراً.