- بعد 370 ألف سنة من الانفجار العظيم، شهد الكون فترةً تُسمى عصور الكون المظلمة، حين كان الكون محجوبا عن الرؤية بسبب البلازما الساخنة الكثيفة التي حبست الضوء ولم تسمح له بالانتقال عبر الفضاء، ما حال دون رصد الكون.
بعد بضع مئات ملايين السنين عندما تشكلت أولى النجوم والمجرات فكك الإشعاع الصادر عنها ذلك الوسط البلازمي، وسمح للضوء بالانتقال خلاله، ومن ثم تحول الكون من حالته المظلمة إلى كون مرئي.
ما زال الجدل قائما بين الفلكيين حول تحديد بداية حقبة طعودة التأيّن الكونيط، وهي الحقبة التي تفككت فيها المادة مرة ثانية، خاصة ذرات الهيدروجين التي جُردت من إلكتروناتها نتيجة تصادم أشعة المجرات بها، ومن ثم تحولت إلى أيونات.
يحاول الفلكيون التعمق في بحثهم عن أقدم المجرات لحل هذا اللغز الكوني، وهذا ما نجح فيه فريق رومان ماير وزملاؤه- من جامعة كلية لندن، بعد أن لاحظوا مجرةً مضيئة يرجح أنها مسؤولة عن تأين الغاز بين المجرات منذ 13 مليار سنة.
عرض طالب دكتوراه في جامعة كاليفورنيا المؤلف الرئيسي في الدراسة رومان ماير نتائج هذا البحث الجديد خلال الاجتماع السنوي للمجمع الأوربي الفلكي مصحوبا بأدلة قوية عن بداية حقبة “عودة التأين الكوني” قبل 13 مليار سنة.
قاد رومان ماير، طالب دكتوراه في UCL Astrophysics Group. الفريق المسؤول عن هذا الاكتشاف، وانضم إليه باحثو جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس، الدكتور نيكولاس لابورت، والبروفيسور ريتشارد إس إليس، بالإضافة إلى البروفيسور آن فيرهام والدكتور تيبو جاريل من جامعة جنيف.
النتائج التي توصلوا إليها هي أيضا موضوع بحث تم تقديمه مؤخرا إلى الإخطارات الشهرية للجمعية الملكية الفلكية.
تُعد دراسة المجرات التي تشكلت في هذه الحقبة المبكرة من عمر الكون أمرا بالغ الأهمية لفهم نشأة الكون وتطوره، إذ تشير أدق النماذج عن بداية الكون أن أولى المجرات ظهرت بعد تكتل أول العناقيد النجمية، التي بدورها تكونت بعد تكتل أول النجوم.
بمرور الزمن، أدى الإشعاع الصادر من هذه المجرات إلى تجريد الغاز المحايد في الفضاء من إلكتروناته.
جدير بالذكر أن التأين هو تفاعل كيميائي بين الأشعة والذرات يُؤدي إلى فقدان هذه الذرات أو كسبها للإلكترونات، وقد وضع هذا التفاعل حدا للعصور المظلمة وأدى إلى شفافية الكون، لكن الجدل يظل قائما حول تاريخ بداية هذا التفاعل مرةً أخرى من عمر الكون.
يقول ماير: “بالنظر إلى أبعد المجرات، فنحن ننظر إلى الكون في حقبته المبكرة بعد أن سافر الضوء بلايين السنين ليصل إلينا، وهذا أمر مدهش إذ يمكننا النظر إلى شكل المجرات قبل بلايين السنين، لكن هذا لا يخلو من عدة إشكالات”.
يوضح ماير: الأجسام البعيدة عنا قاتمة اللون ولا يمكن رصدها إلا بواسطة أحدث وأقوى التلسكوبات، وعلى هذه المسافة، هناك أيضا المشكلة الصعبة المتمثلة في الانزياح الأحمر، إذ يُسبب توسع الكون تمدد الطول الموجي للضوء القادم من المجرات البعيدة وانزياحه نحو أقصى الطرف الأحمر من الطيف.
من المعلوم انزياح ضوء المجرات التي تبعد عنا بضعة مليارات السنين إلى درجة استحالة رؤيته إلا بالأشعة تحت الحمراء (خاصةً بالأشعة فوق البنفسجية التي كان ماير وزملاؤه يبحثون عنها).
وقد ركز بحث الفريق على المجرة المضيئة (A370p_z1) على بعد 13 مليار سنة ضوئية، واستعان ماير وزملاؤه ببيانات برنامج هابل للحقول الحدودية، التي أشارت إلى أن ضوء هذه المجرة شديد الاحمرار، ما يعني أنها قديمة جدا.
درس الفريق لاحقا الطيف الوارد من هذه المجرة اعتمادا على التلسكوب الكبير جدا، وركزوا اهتمامهم على الخط الطيفي الذي تصدره ذرة الهيدروجين المُتأين المسمى خط لايمان-ألفا.
يقول ماير: “كانت المفاجأة عندما اكتشفنا أن لهذه المجرة خط لايمان-ألفا مُزدوج، نادرا ما نجده في المجرات الأولى، فهذه المجرة الرابعة التي نعرف أنها تحتوي على خط لايمان-ألفا مزدوج في مليار السنة الأولى. المُثير في خطوط لايمان-ألفا المزدوجة أنه يمكن الاعتماد عليها لاستنتاج وجود عدد مهم جدا من المجرات المبكرة، أي لاستنتاج مقدار الفوتونات النشطة التي تسربها المجرات الأولى إلى الوسط بين المجري”.
كانت المفاجأة الأخرى التي لفتت انتباه العلماء أن مجرة (A370p_z1) تسمح بتسريب 60% إلى 100% من فوتوناتها المتأينة إلى الفضاء بين المجرات، ما يُرجح أنها مسؤولة عن تأين الوسط الكوني المحيط بها.
تحتوي المجرات القريبة من مجرة التبانة عادةً على نسبة تسرب فوتونات تبلغ نحو 5% (تبلغ 50% في بعض الحالات النادرة)، لكن الملاحظات تشير أن معدل تسريب المجرات الأولى لفوتوناتها في الوسط المجري يقدر بـ10% – 20% وسطيا.
يعد هذا الاكتشاف مهما جدا لأنه قد يحل جدلا طال في الأوساط الفلكية حول عودة التأين الكوني (تاريخ بدايته وكيفية حدوثه).
حتى الآن أنتج هذا الجدل سيناريوهين محتملين: الأول بداية حقبة عودة التأين الكوني بعد أن بدأت مجموعة متكونة من عدة مجرات خافتة الضوء تسرب نحو 10% من فوتوناتها النشطة، أما الثاني فيرجح أن تكون قلة من المجرات المُضيئة بنسبة تسرب فوتونات أكبر (50% أو أكثر) هي المسؤولة عن بداية هذه الحقبة من تاريخ كوننا.
في كلتا الحالتين، تشير الأدلة المتوفرة حتى الآن إلى أن المجرات الأولى التي ظهرت بعد الانفجار العظيم كانت مختلفةً عن المجرات الحالية. يقول ماير: «يؤكد اكتشاف مجرات تتسرب فوتوناتها بنسبة تقارب 100% فرضيات علماء الفيزياء الكونية. كانت المجرات الأولى مختلفة جدًا عن المجرات الحالية، بنسبة تسرب أعلى وأكثر فعالية لفوتوناتها النشطة».
رغم صعوبة دراسة خطوط لايمان-ألفا في الحقبة المبكرة من الكون، نظرًا إلى امتصاص الغاز المحايد والمحيط بالمجرات الأولى ذلك الطيف المنبعث من ذرات الهيدروجين، فإن العلماء يمتلكون أدلةً قوية على اكتمال حقبة عودة التأين بعد 800 مليون سنة من الانفجار العظيم، ومن المحتمل أن قلة من المجرات الساطعة مسؤولة عن ذلك.
إن صح أن المجرة التي درسها ماير وزملاؤه ترجع إلى حقبة عودة التأين، فنستطيع افتراض أن هذه الحقبة التاريخية من كوننا نتجت عن مجموعة صغيرة من المجرات التي ساعد ضوؤها على خلق فقاعات كبيرة من الغاز المُتأين المحيط بها، ثم أخذ هذا الغاز ينمو ويتراكم.
أوضح ماير أن هذا الاكتشاف قد يغير نظرتنا حول أهم الأحداث التي وقعت في الزمن المبكر لكوننا، ويؤكد لنا أن المجرات الأولى (قبل 13 مليار سنة) كانت أكثر فعاليةً في تسريب فوتوناتها النشطة التي جرّدت ذرات الهيدروجين من إلكتروناتها، ثم تحويل الغاز المستقر بين المجرات إلى غاز مُتأين.
وفقا لماير، ما زلنا بحاجة ماسة إلى رصد المزيد من المجرات الشبيهة بمجرة (A370p_z1) حتى يستطيع العلماء التحقق من معدل تسريب المجرات الأولى للفوتونات، وفي غضون ذلك ستكون الخطوة التالية هي تحديد سبب فعالية هذه المجرات المبكرة في تسريب فوتونات نشطة.
طُرحت سيناريوهات عديدة لتفسير هذا الاختلاف بين المجرات الأولى والمجرات الحالية، لكن يتطلب التحقق منها تليسكوبات أكثر تطورًا وقدرةً على الغوص أعمق وأقدم في كوننا المبكر، أبرزها تليسكوب جيمس ويب الفضائي الذي سيُطلق العام القادم.
تكمن أهمية هذه الدراسة وأمثالها في أنها تشكل لغزًا فلكيا فريدًا، ومادةً دسمة لفريق جيمس ويب.
يعلق ماير: “سندرس هذه المجرة بعمق في ضوء الأشعة تحت الحمراء باستعمال تليسكوب جيمس ويب، حتى نتأكد من الانبعاثات الأصلية لأولى المجرات وآليات عملها الفيزيائية.
يُعد اكتشاف مثل هذه الأجسام المتطرفة مهما وحالة جديرة بالدراسة، لأنه سيوفر الكثير من الوقت لصالح مهمات تلسكوب جيمس ويب التي ستكون محدودة الوقت في بحثها عن المجرات الغريبة في بداية الكون”.