انطلقت اليوم قمة TED بالعربية في العاصمة القطرية الدوحة بالشراكة بين TED ومؤسسة قطر، وأقيمت القمة في مركز قطر الوطني للمؤتمرات، وسط حضور جماهيري كبير حيث تجاوز عد المسجلين لحضور فعاليات القمة خمسة آلاف شخص من شتى أنحاء الوطن العربي، وتجري أحداث هذه القمة الأولى من نوعها كقمة ناطقة بالعربية يومي الثامن عشر والتاسع عشر من مارس/ آذار الجاري،
تحت شعار “أثر الفراشة لايرى”.
تهدف القمة المقامة في الشرق الأوسط للمرة الأولى والتي بدأ التخطيط لها منذ ثلاث سنوات، وتحديدا في يوليو ٢٠٢٠ حينما بدأت الشراكة بين مؤسسة قطر وTED، لخلق لقاء عالمي ناطق بالعربية، يهدف لتوفير مساحة لصناع التغيير وأصحاب الفكر والرؤى من شتى أنحاء العالم العربي، لمشاركة هذه الأفكار في هذا المحفل الفكري والعلمي والاجتماعي الكبير، وتسليط الضوء على الطاقات الشبابية المبدعة في مجالات ابتكارهم المختلفة، من علم وفنون وأدب وفلسفة، ومنح الفرصة أيضاً لأصحاب قصص النضال والتحدي لسرد رواياتهم وطرح طريقتهم في مواجهة الصعاب والتحديات، في سبيل انتاج عالم أفضل، وتحصيل خبرات تراكمية تحدث بتجمعها إرثاً يبقى، وأثراً لايزول.
وشهد اليوم الأول من القمة حصتين بعنوان “حوارات TED بالعربية” تخلل كل منهما أربع خطب لعلماء ومفكرين وفنانين وأدباء ومناضلين تناولوا مواضيع متنوعة على المسرح الرئيسي، وأقيمت أيضاً جلسات نقاشية وورش مختلفة في قاعات المركز الوطني للمؤتمرات، كما جرت أعمال اجتماعية وفعاليات ترفيهية نظمتها الجهات المشاركة في القمة.
افتتحت القمة أعمالها في المسرح الرئيسي بمقطوعة موسيقية ووصلة غنائية بعنوان “أثر الفراشة لايزول” ثم أتبعت بأغنية “هيا بالعربي تكلم”.
ورحبت سفيرة مركز مناظرات قطر موزة الهاجري بضيوف اللقاء، وألقت كلمة اقتتاحية بعنوان “تجمعنا اللغة” تحدثت فيها عن قيمة العطاء ودورها في ربط الجماعات وتخليد سير أفرادها، فعطاء الإنسان يبقى وإن ذهب، فالطائي ذهب وبقي كرمه، والعلماء رحلوا وبقي نفعهم، وكل من قدم لمجتمعه بقي عطاءه، أثر فراشة يبقى.. ولا يزول، وتناولت موزة الهاجري دور الثقافة العربية المحورية بين الأمم، وكيف يزداد ثقل هذه الثقافة التي وضعت على الهامش حتى تعود للمركز، بالإبداع والإبتكار والعطاء.
وأعلن مقدم الحصة الحوارية الأولى سعود المضاحكة عن مبادرة أطلقتها TED عام ٢٠٢٣ تحت عنوان شارك أفكارك، تم على إثرها اختيار ١٧ متحدثا من أنحاء العالم المشاركة أفكارهم باللغة العربية.
وبدأت أولى خطابات القمة من الشاعر وأستاذ الفيزياء اللبناني مهدي منصور، الذي ربط في خطابه بين الفيزياء والشعر، وقال لكي تكون فيزيائيا عليك أولا أن تكون شاعراً، فهناك علاقة غريبة بين العلم والفن بين العاطفي والمجرد، وشرح محاولة فصل قام بها النظام التعليمي بين جانبين مهمين من حياته وشخصيته، بين الشعر والفيزياء، وكيف كان تصنيف العلمي/ الأدبي عائقاً تمكن من تجاوزه باستثناء، حيث وصف النظام التعليمي التصنيفي الذي يأطر التخصصات السائد في الوطن العربي بنظام التعليب لا التعليم، فالناجحون يدخلون التخصص من باب واحد، أما المبدعون فيدخلون للتخصص من أبواب شتى، وشبه الشاعر الناس بالمثلثات زاوية منهم للعلم وزاوية للفن وزاوية للتواصل ومع اختلافات البشر إلا أن مجموع زواياهم ١٨٠ درجة، وهكذا يرى أن الإنسان يجب عليه أن يوازن في بناء هندسته الذاتية بين تعمقه بالعلم وتألقه بالفن وابداعه في نشر أفكاره وتواصله مع الآخرين، وربط بين طريق العلماء إلى المعرفة بطريق الشعراء إلى القصيدة، فكلاهما يبدآن من الدهشة والشعور، واختتم خطابه بقوله: حبن نفكر بالعربية نبدع نرقى ونبتكر؛ فيا أيها العربي تمهل، دوائك فيك، وما تشعر، وتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر.
وجاء الخطاب الثاني من رفيعة الطالعي الناشطة في مجال تمكين المرأة والتي حكت قصة قالت إنها لفشلها في الوصول إلى مجلس الشورى العماني، وبدأت في شرح سبب هذا الفشل بطريقة وصفتها بالمنهجية العلمية، أوضحت في نهايتها أن ما ينقص النساء للوصول إلى مناصب صنع القرار هي القوة والجاه التي يميل الناخبون إلى التصويت لإصحابها، وأوضحت أن الحل يكمن في تعيين النساء في مناصب صنع القرار حتى تتكون لديهم الخبرة ويعطون الفرصة المتكافئة لإبراز طاقاتهم وأبداعهم، وأشارت لممارستها هذه التجربة في الولايات المتحدة الأمريكية حيث تعطي الفرصة للنساء للتعبير عن آرائهم وأفكارهم في معهد دراسات تعمل به، في سبيل تمكين المرأة، وهي القضية التي تراها قضية مصيرية.
وفي الخطاب الثالث جاء العالم والطبيب والمخترع الكويتي أحمد نبيل لطرح فكرة تحدثت عن ظاهرة وصفها بالخطيرة تسير المجتمعات، وتسلب إرادة أفرادها الحرة، ظاهرة الامتثال والمسايرة، وقتم بسرح دراسة تفيد أن ما نسبته ١٪ من رواد وسائل التواصل الاجتماعي يقومون بإنتاج المحتوى بينما يتفاعل ٩% مع المحتوى ويعلقون عليه، بينما يتلقى 90% من الأشخاص المحتوى و يتأثرون به، لذلك وجد أن الغالبية العظمى تمتثل لقرارات وآراء الأقلية، لذلك جاء بفكرة جديدة وهي تصميم موقع لقياس الأراء و الاستطلاعات أسماه “راينا” ويتميز عن غيره من المواقع كونه يقدم معلومات عن الفئة السنية والجنسية والمشاركين في الاستطلاع مع الحفاظ على خصوصيتهم واسمائهم، لكي يتضح للناس حجم الرأي المتداول الحقيقي، ىتمكن الأفراد من اختيار مواقفهم منه دون التعرض لأي مؤثرات تعيق عملية التفكير المنطقي لدى الإنسان كالمسايرة والإمتثال.
واعتلت المسرح في الخطاب الرابع المصممة القطرية مشاعل النعيمي التي تناولت قضية اللباس والاستدامة، حيث وضحت أن الإنسان قد يضر البيئة من خزانة لباسه، وكيف يجب أن يسعى الفرد نحو السلوك المستدام في شراء لباسه، بعيدا عن الانجذاب الهوىسي لشراء الملابس، لتسرد بعد ذلك قصتها في الدخول لعالم التصميم، وكيف بدأت هذا المجال متأخرا، ومن ثم كيف اختارت التعامل مع المؤسسات التي توظف الاحتياجات الخاصة وتمكنهم، ودخولها بعد ذلك في مسابقات عالمية حققت فيها الفوز بتصميمات من عبق التراث والثقافة العربية القطرية وبأزياء ذات تصميم ومواد أولياء مستدامة وخالية من المواد الصناعية.
وفي آخر خطابات الحصة الحوارية الأولى تحدث الشاب المصري المصري ابن مدينة الاسكندرية، عمرو رمضان الذي تولد خطابه وفكرته من خوفه على مدينته، من ظاهرة الاحتباس الحراري، واحتمال تعرضها للغرق، فبدأ في البحث عن الآلية وطريقة يحدث بها أثرا لحماية مدينته وباقي مدن العالم المهدده، فأقترح تطبيق برنامج حكومي لمحاسبة الشركات الكبرى المتسببة في الأضرار بالبيئة، وفرض ضريبة عليهم أسماها “الضريبة الكربونية” وبدأ في سرد وشرح الآليات التي تمكن من تطبيق فكرته، وقال أن الاستمرار في هذا النهج الذي نعيش به اليوم قد يؤدي إلى تصاعد المشكلات المناخيه أكثر فأكثر، وتزداد مع هذه المشكلات مخاطر تهدد حياة الملايين من البشر في شتى أنحاء العالم؛ وليس فقط الاسكندرية.
وبهذا أختتمت أعمال الحصة الحوارية الأولى وبدأت الجلسات الفرعية في قاعات مركز المؤتمرات، وكان من أبرز تلك الجلسات جلسة نقاشية بعنوان “دافع عن قضيتك بموهبتك” تحدث فيها الماشط الفلسطيني طارق البكري عن إطلاق مبادرة التوثيق البصري في فلسطين، مبادرة اسماها “كنا ومازلنا ” حيث يقوم بجمع صور لفلسطينيين أمام بيوتهم قبل التهجير عام ١٩٤٨، ويبدأ في البحث عن البيوت وأصحابها أو ابنائهم، ومحاولة اعادتهم لبيوتهم وإعادة التقاط الصور لهم هناك مرة أخرى، كدلالة على أحقية الفلسطيني في أرضه وبيته الذي سلب منه قسراً، وللتركيز على حضارة وإرث فلسطين، ومحاولة إحداث الفارق بجهود شبابية، تحفظ حق وذكريات وطن بأكمله.
وقبيل انطلاق الجلسات الحوارية الثانية تم عرض فيلم وثائقي قصير على المسرح الرئيسي عن الفنانة القطرية بثينة المفتاح تحدث عن دمج اللغة العربية بالأعمال الفنية رسوماتها وكيف تمثل اللغة العربية لها منبع جمال وابتكار، و أقامت فرقة بنات الوكرة عرض موسيقي تم غناء الأغاني الفلكلورية القطرية فيه.
وانطلقت أعمال الجلسة الثانية مع الفنان بلال خالد من فلسطين، وهو رسام وخطاط، يصف نفسه “بمجنون الخط العربي” يحمل فرشاته وهموم اللاجئين معه أينما ذهب، فكانت بدايته في مدينة غزة التي ولد وترعرع فيها، حيث بدأ الرسم على جدرانها، وانطلق من غزة للعالمية، فذهب إلى زيمبابوي ورسم على أحد جدرانها الآية الكريمة “وجعلنكم شعوبا وقبائل لتعارفوا” رغبة منه في التأكيد على رسالة على أن البشر جميعهم سواسيه، فلا فرق بين أبيض وأسود، ثم انتقل بين دول العالم، ومن هذه الدول كانت الصومال التي عاين الأوضاع الإنسانية الصعبة فيها من محاعات وحروب، فرسم على إحدى جدرانها “رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات” ثم انتقل إلى أوروبا حيث ساهم في نشر ثقافة الخط العربي وجمال اللغة العربية عن طريق رسوماته في هولندا، وهي الرسومات التي وجدت إقبالا كبيراً من المواطنين، مادفعهم لمحاولة تعلم اللغة العربية والخط العربي، واستمرت مبادرته في غزة حيث كان يصنع من ملامح الدمار أعمالاً فنية توصل الرسالة للعالم في الواقع الذي يعيشه سكان هذا القطاع المحاصر.
وتحدثت بعد ذلك الدكتورة هند القادري من الكويت، الباحثة في علم اللعاب، والتي اكتسبت جوائز من جامعة هارفرد نظرا لبحوثها القيمة في هذا المجال، حيث دراسة العلاقة بين المحتوى البكتيريا في اللعاب وشدة الإصابة بمرض كورونا، وقالت أن هناك توازن طبيعي بين البكتيريا النافعة والضارة في الفم، وإذا ما اختل هذا التوازن يحدث المرض، ويؤثر على الجهاز المناعي، و أكدت أن الفم هو خط الدفاع الأول في الجسم، فالفيروسات تتكاثر حينما يكون المحتوى البكتيري فقير في لعاب الفم، وقالت الدكتورة هند القادري أن العلماء استطاعوا ضبط المحتوى البكتيري عند لعاب مرضى السرطان، والنتائج أصبحت مبشرة فالدراسات المستمرة في هذا المجال قد تمنع الإصابة بأمراض خطيرة قبل وقوعها، مثل أمراض السكر والزهايمر وأمراض القلب.
وفي ختام الجلسة الحوارية كان الموعد مع أحمد حبيب من العراق المتحدث الأول من ذوي الاحتياجات الخاصة في TED بالعربي، حيث شارك تصوره في بناء مجتمعات تناسب الجميع بمافيهم ذوي الإعاقة، بدأ أحمد خطابه بسؤال.. لماذا أحس بالإعاقة في أماكن ولا أحس بها في أماكن أخرى، لماذا لم أكن أحس بالإعاقة حينما كنت ألعب مع أصدقائي في صغري بينما أحسست بها فيها أثناء ذهابه ما أبي للتسجيل في المدرسة، هذا الشعور بالفوارق من مكان لآخر بدأ يحفز في داخله البحث عن الجواب، هاجر أحمد بعد ذلك إلى كندا وعمل هناك كناشط وصحفي وشاعر، ولم يشعر بأي فارق أو إعاقة تمنعه من قيامه بهذه الأعمال، وهنا اقتنع أن الإعاقة تكون في العقليات والتصورات الخاطئة عن ذوي الاحتياجات الخاصة، الشخص لا في أجسادهم، وأنا أنهاء المعاناة وتذليل الصعوبات لذوي الاحتياجات الخاصة هو أمر بين أيدينا، ويبدأ بالوعي، فبدأ في تصميم الأماكن لتناسب ذوي الاحتياجات الخاصة في كندا، ثم عاد إلى قطر في مركز مدى وهو أول مركز من نوعه في الشرق الأوسط، و أحدث فيه الفارق لذوي الإعاقة من المكفوفين والبكم الصم، حيث عمل معهم على عدة اختراعات باللغة العربية، ليشارك بعد ذلك مع اللجنة المنظمة لكأس العالم كممنتج أفلام وكاتب صحفي، ووصف البطولة بأنها كانت أكثر بطولة متاحة لذوي الاحتياجات الخاصة بالتاريخ، حيث كان من أعمال مركزهم ابتكار آلية الوصف الصوتي لفقدان البصر وأكد أن البطولة حققت إرثاً كبيراً في تغيير الصورة النمطية عن ذوي الإعاقة، هذه الإعاقة التي تكون أحيانا في عقول من يراها ولا تكون موجودة في الواقع.
واختتم اليوم الأخير بعدد من الورش واللقاءات والجلسات النقاشية وسط حضور كبير استمر حتى الساعة الأخيرة من القمة التي تقام على أرض عربية، وانطق بلسان العرب، لأول مرة، في سبيل إحداث أثر وترك أرث، كالفراشة، يبقى ولا يزول.