العقل هو عضو غريب وقوي ومعقد بشكل لا يصدق، وهذا هو السبب الذي يجعل نتائج حدوث خلل ما فيه غريبة بشكل مذهل.
عادة ما يتقبل معظمنا ما يقدمه له دماغه بدون تساؤل أو تمحيص، فالجميع يستطيع تصور أحبائه وتذكر الأحداث ويعلم حتى بأن العالم يبدو تقريباً بالطريقة التي يدركها، ولكن أدمغة بعض الأشخاص مختلفة، وهم لا يأخذون هذه الأمور كأشياء مفروغ منها.
يمكن لمجرد تغيير بسيط في شكل التشابك العصبي في الدماغ أن يغيّر قدرة الشخص على التذكر أو النسيان، ويمكن أن يجعله يعتقد بوجود الأشباح ويتسبب بخلق واقع مختلف تماماً عن الواقع الحقيقي، وهذه الهشاشة هي تمثيل قوي لحقيقة أن كل شيء نعتقد بأننا نعرفه في الواقع، هو مجرد وهم إدراك يتم إنشاؤه في العقول “الطبيعية”.
إذا كانت المشابك العصبية مختلفة قليلاً، فقد تبدأ في رؤية اللون الأزرق على أنه أحمر، أو تشعر بالساخن على أنه بارد، أو حتى تصبح مقتنعاً بأن هناك شخص آخر يعيش في منزلك، أو تشعر بيد وهمية تلمسك.
هذه الأشياء يمكن أن تتحول بسرعة من أشياء غريبة إلى مخيفة، لأننا إن لم يكن بمقدورنا أن نثق بعقولنا، فبمن سنثق؟
- حس المرآة اللمسي المرافق (Mirror-Touch Synaesthesia): الشعور بشعور الآخرين
قد يكون من الصعب أحياناً أن تضع نفسك في مكان شخص آخر، ولكن بالنسبة لأولئك الذين يعانون من حالة نادرة تعرف باسم حس المرآة اللمسي المرافق، فإن هذا الأمر سيحدث لا محالة.
ذكرت إحدى النساء بأنها تشعر بشعور الاحتضان عندما ترى شخصين يتعانقان، وذكرت أيضاً بأنها لا تستطيع مشاهدة الأشخاص الآخرين وهم يتناولون الطعام لأنها تشعر بأن هناك شخص غير مرئي يدفع الطعام في فمها، وهذا أمر مخيف بقدر ما هو مثير للاهتمام.
أظهرت دراسة تم إجراؤها حول هذه الحالة الغريبة، وتم خلالها مقارنة نشاط الدماغ لدى الأشخاص الذين يعانون من حالة حس المرآة اللمسي المرافق مع النشاط الدماغي لأشخاص من مجموعة ضابطة، بأن النشاط الدماغي قد ازداد بشكل كبير في ثلاثة أجزاء مختلفة من الدماغ تختص في معالجة المعلومات الحسية والوعي الذاتي، والأهم، فهم أفعال الآخرين.
هذه الحالة في الأساس هي متلازمة الأطراف الوهمية، ولكن هذه الأطراف الوهمية تنتمي إلى شخص آخر، وهو يلمسك بشكل دائم.
- الإهمال النصفي (Hemispatial Neglect): عدم القدرة على رؤية نصف العالم
ينقسم الدماغ إلى نصفين، وبعض النظريات تشير إلى أن هذين النصفين يشكلان دماغين مختلفين، ولكنهما يعملان معاً، وأن كل جانب من الدماغ يتحكم في الجانب المعاكس له من الجسم، بما في ذلك الرؤية وغيرها من معالجة التحفيزات.
عندما يتعرض أحد جوانب الدماغ للتضرر نتيجة لسكتة دماغية مثلاً، فقد يبدأ بعض المرضى بتجاهل نصف عالمهم، ويتصرفون كما لو أن الجانب الأيسر من الحيز الحسي غير موجود، لذلك فقد يقومون بحلق أو وضع المستحضرات التجميلية على نصف واحد من وجوههم، أو ترك نصف الطعام في صحنهم أو حتى رسم نصف الشكل المطلوب رسمه كنصف وجه أو نصف ساعة.
علاج هذه الحالة يتمحور في معظمه في محاولة لفت انتباه المريض إلى الجانب المهمل.
- متلازمة الساكن الشبح (Phantom Boarder Symptom): الشعور بوجود شجص آخر غير موجود في المنزل
قد يبدو هذا مرعباً للغاية، ولكن بعض الأشخاص الذين يعانون من الخرف سيعانون أيضاً من الوهم بأن هناك شخصاً ما، غير مرحب به عادة، يعيش معهم في منزلهم.
عادة، يكون لدى الأشخاص الذين يعانون من هذه الحالة أفكار مفصلة بشكل لا يصدق لسلوك ضيفهم الوهمي، وقد يشكون أحياناً من أنه صاخب، أو حتى أنه يقوم دائماً بتناول طعامهم، وباختصار، فإن الأمر بالنسبة للمرضى يشبه الحصول على شريك سيء جداً في السكن، ولكنه لا يستجيب أبداً للملاحظات السلبية.
يُعتقد بأن هذا الوهم يعود لوجود مشكلة في عدم التعرف، حيث ينسب المرضى ذكرياتهم والأحداث التي مروا بها وسلوكيات الآخرين (في حالة الضوضاء مثلاً) أو حتى سلوكياتهم أنفسهم (كحالة اختفاء الطعام) لشخص آخر وهمي موجود معهم.
- الأفانتازيا(Aphantasia): عدم القدرة على التخيل
قد لا تكون من الأشخاص الذين يمتلكون أفضل المخيلات في العالم، ولكن معظمنا قادر على تصور وجه أحد أفراد أسرته، أو تصور طريق في عقلنا، ولكن مع ذلك، فبالنسبة للأشخاص الذين يعانون من حالة تعرف باسم الأفانتازيا، فإن الأمر يبدو وكأن عين عقلهم مصابة بالعمى، فهم غير قادرين على إنشاء صورة عقلية لأي شيء.
ما يراه الأشخاص المصابون بالأفانتازيا يصعب فهمه بالوصف، فقد وصفها أحد الأشخاص الذين يعانون من هذه الحالة بأن الأمر يشبه تذكر المعلومات: “عندما أفكر في خطيبتي لا أرى أي صورة، ولكنني أفكر بها بالتأكيد، فعندما أفكر بتسريحة شعرها مثلاً، لا أرى صورة أنظر إليها، بل أتذكر ميزة عنها”.
الجدير بالذكر أن الأشخاص المصابين بالأفنتازيا غالباً ما يفيدون بأنهم قادرون على رؤية الأحلام البصرية، وأن عقلهم اليقظ هو فقط الذي لا يستطيع استحضار الصور.
إن هذه الحالة منتشرة بشكل ملحوظ، حيث يشير البعض بأن واحد من كل 50 شخصاً يمكن أن يكون مصاباً بها، ولهذا، فإن بعض الخبراء لا يعتبرونها في الواقع بأنها اضطراب، بل اختلاف طبيعي في الطريقة التي يعمل بها العقل البشري من شخص لآخر.
- هايبرثيميسيا (Hyperthymesia): عدم القدرة على النسيان
بالنسبة لأولئك الذين يمتلكون ذاكرة سيئة، فإن القدرة على تذكر كل ما يحدث في أي وقت بتفاصيل متناهية الدقة قد يكون أمراً مفيداً.
يمكن للأشخاص الذين يعانون من الهايبرثيميسيا تذكر كل يوم من حياتهم بشكل دقيق وتلقائي، ولكنهم مختلفين عن الأشخاص الذين يمتلكون ذاكرة استثنائية، فهم لا يستطيعون حفظ صفحة من الكلمات أو جدول من الأرقام، كالموهوبين باستخدام استراتيجيات المراجعة والاستذكار، فبدلاً من ذلك، تكون معظم ذكرياتهم حول حياتهم وتظهر لهم بطريقة تلقائية وغير مطلوبة عندما يرون تاريخاً معيناً أو تحفيزات أخرى، وعادة ما يكون لديهم ذاكرة أقل من متوسطة عندما يأتي الأمر لحفظ المعلومات بشكل إرادي.
أحد الاستثناءات الشهيرة لهذه القاعدة كان رجل يدعى (سليمان شيريشيفسكي)، والذي كان قادراً بشكل مثالي على استذكار كميات هائلة من المعلومات، نظرا لحسه المرافق العميق – وهي حالة تجعل حواس الشخص مختلطة- ويُعتقد بأن روابطه المتداخلة منحته قدرة على الاستذكار التلقائي مما جعل ذاكرته قوية بشكل لا يصدق.
- وهم الزجاج (Glass Delusion): الاعتقاد بأن الشخص مصنوع من الزجاج
إحدى أغرب الأشياء حول بعض الاضطرابات العقلية، هو أنه يبدو بأنها تخضع لـ”الموضات”، ووهم الزجاج هو واحد من هذه الاضطرابات، حيث أن انتشاره ازداد بشكل كبير ما بين القرن الـ15 والقرن الـ17، وبعد ذلك انخفض سريعاً.
كما يوحي الاسم، فإن الذين يعانون من وهم الزجاج مقتنعون بأنهم مصنوعين من الزجاج، لذلك، فهم يصابون بقلق كبير من أنهم قد ينكسروا.
يمكن القول بأن أشهر الشخصيات التي كانت مصابة بوهم الزجاج هو الملك شارل السادس من فرنسا، حيث يشير بعض المؤرخين المعاصرين وعلماء النفس بأن الملك وابنه كانا مصابين بانفصام الشخصية، فقد كان يعاني بانتظام من نوبات من الغضب والذعر والقلق، ويقال بأنه كان أيضاً يجلس لساعات طويلة دون حراك، لأنه كان مقتنعاً بأنه إذا تحرك فسيتحطم.
انتشرت هذه الحالة بين السكان أيضاً وكانت معروفة بما فيه الكفاية ليتم ذكرها من قبل الجميع، من (ديكارت) إلى (سرفانتس)، ولكن بعد 200 سنة، توقف هذا الانتشار، ولم يتبق سوى بعض الحالات الفردية بين الحين والآخر في العصور الفيكتوري والحديثة، ولكن حتى يومنا هذا، ليس هناك أحد متأكد تماماً من الكيفية التي جعلت اضطراباً عقلياً يختفي بهذه البساطة.
- داء بلوك (Blocq’s Disease): تعذر المشي والوقوف
يعتبر داء بلوك من الاضطرابات الغريبة، وغالباً ما يظهر المرضى المصابون به بأنهم على وشك السقوط دائماً، فهم يميلون إلى التعثر وكأنهم في حالة سكر، وأحياناً يحاولون موازنة أنفسهم عندما يحاولون السير، ولكن الأغرب هو أنهم لا يسقطون.
عند الاستلقاء، يمتلك الأشخاص الذين يعانون من داء بلوك جميع وظائفهم الحركية وقوتهم في أرجلهم، فهذه الظاهرة لا تظهر إلًا عندما يحاولون الوقوف أو المشي، كما أنه نادراً ما يسقط المرضى على الأرض في وضعية من شأنها أن تؤذيهم، ولكنهم إذا ما رأوا مهبطاً ليناً أو شخصاً قد يمسكهم، فقد يفعلون ذلك.
يُعتقد بأن هذا ما يعرف باسم “رد فعل التحويل”، وهو لا يحدث بسبب مشكلة جسدية، بل هو استجابة نفسية للإجهاد الشديد أو القلق، وهذا لا يعني بأن المريض “يصطنع ذلك” – فهم حقاً يعانون منها – ولكن السبب نفسي وليس جسدي.
- صعوبة اللياقة اللفظية (Verbal Dysdecorum): عدم القدرة على فلترة الكلمات
من منا لم يتمن في يوم أن يواجه رئيسه في العمل بما يفكر به عنه؟ حسناً، المرضى الذين يعانون من صوبة اللياقة اللفظية لا يمكن أن يمنعوا نفسهم من فعل هذا، وهو ما يضعهم في مختلف أنواع المتاعب.
تحدث هذه الحالة بسبب تلف الفص الجبهي وأجزاء دماغية أخرى تشارك في التجهيز الداخلي لما نريد أن نقوله قبل التلفظ به، ولكن في الوقت الذي يستطيع فيه الأشخاص الذين يمتلكون أدمغة غير مصابة تصفية أفكارهم والاحتفاظ بتلك التي قد تؤدي إلى إصابتهم بالضرر لأنفسهم، فإن الأشخاص المصابين بهذه الحالة لا يمكنهم ذلك.
تمت ملاحظة هذه الحالة للمرة الأول لدى طبيب بيطري من فيتنام أدت إصابته بطلق ناري في الرأس إلى جعله عاجزاً تماماً عن فرض أي نوع من الرقابة على نفسه، وبالتالي غير قادر على الاستمرار بوظيفته.
حاول فقط الانتباه إلى مقدار الأفكار والمشاعر التي تحتفظ بها لنفسك على مدار اليوم الواحد، وسرعان ما ستعرف مدى أهمية امتلاكك لمثل هذه المهارة من الرقابة الذاتية.
- هذيان الأراجيف (Confabulation): اختلاق الذكريات
عدم نسيان ذكرى هو أمر، واختلاق واحدة هو أمر آخر تماماً.
هذا هو الوضع بالنسبة لـ(ماثيو)، الذي يعاني من ظاهرة تسمى هذيان الأراجيف نتيجة إصابة دائمة في الدماغ ناجمة عن وجود كييس، ويعتقد أن الإصابة جعلت (ماثيو) يعاني من فقدان للذاكرة، ولكن بدلاً من مجرد نسيان الأشياء، فإن دماغه بدأ يخترع ذكريات زائفة لملء الفجوات، وهذه الذكريات لا تتطابق بالضرورة مع الواقع.
في إحدى المرات، أشار (ماثيو) بأنه عاد للعمل وأنه حصل على تطمينات من قبل أرباب عمله بأنهم سيفعلون كل ما في وسعهم لمساعدته في العودة إلى الحياة العملية، ولكن في صباح اليوم التالي، قال أنه كان مقتنعاً بأنهم كانوا على وشك طرده، والسبب في ذلك هو أن دماغه حاول ملء جزء كان قد نسيه من المحادثة.
بصفة عامة، فإن حالة (ماثيو) تجعله يستمر في إنشاء ذكريات قد تتصل بالواقع، ولكن بعض الأشخاص الآخرين الذين يعانون من هذه الحالة يخترعون أحياناً ذكريات مستحيلة مثل التحليق إلى القمر.
المثير للدهشة، هو أنه ليس من الصعب زرع الذاكرة الكاذبة، حتى في الدماغ “الطبيعي”، ففي إحدى الدراسات، تمكن العلماء من زرع ذكريات كاذبة في عقول 50% من المشاركين باستخدام صور مزيفة، لذلك قد يكون من غير الممكن الوثوق بعقلك دائماً.