عام 1992، غرقت في مكانٍ ما من القسم الشمالي للمحيط الهادي، حاوية شحنٍ محمّلةٍ بـ 28 ألف بطةٍ مطاطية، وحتى يومنا هذا، ما زال عددٌ من تلك الدمى المصنوعة من البلاستيك اللدن يصل إلى شواطئ الولايات المتحدة وهونغ كونغ من وقتٍ لآخر، ليس هذا فحسب، بل إن بعض تلك الدمى تتقاذفها الأمواج قرب الساحل الشرقي للولايات المتحدة، أو شواطئ بريطانيا وإيرلندا، وهي أماكن بعيدةٌ جدًّا عن مكان حادثة الغرق.
هذه القافلة من البطّ المطاطي الهارب، انضمت إلى ملايين من قطع المكعبات البلاستيكية والأحذية الرياضية والعوازل الكهربائية والأقفاص البلاستيكية، وغيرها من المواد الأخرى المفقودة في البحر، والتي تعلمنا باتجاه حركة التيارات المحيطية، وتعلمنا أيضًا بحجم التراكم المذهل للمواد البلاستيكية في البيئات البحرية.
ورغم الأضرار الكثيرة والخطيرة التي يلحقها البلاستيك بالبيئة، إلا أنه يقدّم لها بعض الفوائد، شأنه شأن كلّ شيءٍ في الطبيعة، 5 أضرارٍ وفائدة واحدة يقدمها البلاستيك للبيئة، تعرّف عليها من خلال التقرير التالي:
1- البلاستيك في كل مكان
تم العثور على حطام البلاستيك في كل مكانٍ على الإطلاق، من القطب الشمالي إلى القارة القطبية الجنوبية، إنه يسدّ الشوارع في مدننا، وينتشر في المخيمات والحدائق الوطنية، وحتى على قمم الجبال، وفي أعماق البحار والمحيطات.
جبالٌ من النفايات البلاستيكية تنتشر في جميع بقاع العالم، حتى في واحدةٍ من أبعد البقع عن التلوث، كجزيرة هندرسون النائية وسط المحيط الهادي، وصولًا إلى أعمق بقعةٍ على كوكب الأرض، أخدود ماريانا، الذي ينحدر حتى عمق 10994 متر (36070 قدم) تحت مستوى سطح البحر،.
كما تم العثور على القمامة البلاستيكية داخل أحشاء أكثر من 90٪ من الطيور البحرية في العالم، وداخل بطون أكثر من نصف السلاحف البحرية في العالم، وحتى داخل بطون الحيتان!
ويشكّل البلاستيك العائم بقع قمامةٍ ضخمةٍ، تدور ببطء وسط المحيط الهادي، على بعد آلاف الكيلومترات من اليابسة، وبالنظر إلى معدل تراكم البلاستيك في المحيطات، يُتوقع أن تتخطى كتلة البلاستيك في محيطات العالم كتلة جميع الأسماك التي تعيش هناك بحلول عام 2050.
2- البلاستيك مسببٌ رئيسيٌ للتكسير الهيدروليكي
من المثير للأسف أن أحد المسببات الرئيسية للتكسير الهيدروليكي هو البلاستيك، ويُعتبر التكسير الهيدروليكي “Fracking” أمرًا سيئًا جدًا لكوكب الأرض، فهو يلوث المياه والتربة والهواء بالسموم، ويخلق تجاويفًا قابلةً للانهيار تحت سطح الأرض، ويزيد الضغط على التكوينات الصخرية الأرضية ويزعزع استقرارها، مما قد يؤدي لحدوث الزلازل، حتى في الأماكن التي لا تشيع فيها الزلازل عادةً.
وقد لا يعرف الكثيرون أن الشركات المصنعة للبلاستيك، تشكل خطورةً على البيئة والحياة البرية والناس بطرقٍ أخرى أيضًا، فشركة Ineos البريطانية العملاقة لصناعة الكيماويات على سبيل المثال، تحظى بسجلٍ مذهلٍ من الحرائق والانفجارات والتسربات الكيمائية، فضلًا عن مساهمتها في تزايد جبال القمامة البلاستيكية، فقد اندلع حريقٌ هائلٌ في منشأة Ineos في كولونيا بألمانيا عام 2008، كما وقعت سلسلةٌ من الحوادث البارزة للشركة في أماكن أخرى، كحادثة التسرب النفطي الكبيرة في النرويج، وحادثة تسرب الغازات السامة التي أسفرت عن إصابة عددٍ من العمال في بلجيكا، إضافةً إلى عددٍ من التسربات الكيميائية في منشآت الشركة في فرنسا وإيطاليا.
3- البلاستيك يقتل جميع الأحياء
في الأشهر القليلة الماضية، ازدادت كثيرًا حالات الإبلاغ عن حوادث نفوق بعض الحيوانات نتيجة تناولها بقايا بلاستيكية، مما أدى إلى غضبٍ شعبيٍ واحتجاجات.
ولا تُعدّ تلك الأحداث المأساوية مفاجئة، لا سيما فيما يتعلّق بالحياة البحرية، فكمية البلاستيك الموجودة في بحار العالم تقدّر بنحو 270 ألف طن، وهي تهدد وجود أكثر من 700 نوعٍ من الكائنات البحرية، علاوةً عن تزايد الأدلة حول دور النفايات البلاستيكية في ارتفاع معدلات انقراض أنواعٍ معينةٍ من الحيتان والأسماك والطيور والسلاحف البحرية وغيرها من الأحياء.
ولا يعتبر الاستقرار داخل الجهاز الهضمي -بما يسببه من آلامٍ- الخطر الوحيد الذي يلحقه البلاستيك بضحاياه المساكين، فمعظم المواد البلاستيكية غير قابلةٍ للتحلل أو الهضم، بل تتكسر إلى أجزاءٍ أصغر وتبقى داخل أحشاء الأحياء التي تناولتها، مسببةً لهم أعراضًا خطيرةً كسوء التغذية وانسداد الأمعاء، والتسمم البطيء نتيجة المواد الكيميائية في البلاستيك.
وحتى الحيوانات المجهرية المعروفة باسم العوالق الحيوانية، ليست في مأمنٍ من أخطار تناول البلاستيك، والفرق الوحيد هو أنها تستهلك الفتات البلاستيكي المجهري، الذي يسبب نفس الأعراض الخطيرة التي تعاني منها الحيوانات، وهو أمرٌ خطيرٌ للغاية، لأن العوالق الحيوانية هي جزءٌ من الكيان الأساسي الذي تعتمد عليه الشبكة الغذائية البحرية بأكملها.
4- إعادة التدوير
وكأنه لا يكفي البيئة أخطار النفايات البلاستيكية، حتى تتحمّل أيضًا أعباء إعادة تدويرها، وقد ذكرنا سابقًا كوارث شركة Ineos، علمًا بأن القليل فقط من اللدائن البلاستيكية تقبل التحلل البيولوجي في الطبيعة، كما أن قليلًا منها أيضًا يقبل التحلل الصناعي من أجل عملية إعادة التدوير.
ومعظم الناس لا يعرفون بالضبط ما إذا كان البلاستيك يقع في الفئة القابلة للتحلل أم لا، ويبدو هذا التشويش أكثر وضوحًا في الأماكن العامة، فمثلًا إذا استهلكت عبوة مياه بلاستيكيةٍ في الشارع أو المطار، فهل ينبغي التخلص منها في صندوق إعادة التدوير أم في صندوق النفايات؟
غالبًا ما يكون من الصعب معرفة ذلك، خاصةً أن المعلومات المتاحة لاتخاذ قرارٍ سريعٍ بهذا الشأن قليلةٌ للغاية.
5- معظم البلاستيك يدوم إلى الأبد
يتضح من قصة هروب البطات المطاطية عام 1992، أن المواد البلاستيكية بإمكانها تحمّل أشد الظروف قسوةً، مثل السباحة تحت حرارة الشمس الحارقة، أو التجمد في جليد القطب الشمالي لسنوات، قبل أن يذوب الجليد وتعود للسباحة من جديد.
ولهذا السبب، فإن المواد البلاستيكية ستبقى –على الأرجح- حتى بعد انقراض الحياة البشرية على هذا الكوكب، وهي النقطة التي ستقودنا لاكتشاف أهم فوائد البلاستيك للبيئة.
كيف يسهم البلاستيك في حماية البيئة؟
شكّل خلود اللدائن البلاستيكية مصدر إلهامٍ لعدة باحثين مغامرين، فبدؤوا في التفكير خارج الصندوق، وبحثوا في كيفية الاستفادة من البلاستيك في حماية البيئة، عبر التقليل من آثار تغير المناخ.
المفتاح يكمن في التركيب الكيميائي للبلاستيك، فهو مصنوعٌ من سلاسل طويلةٍ من جزيئات الكربون، مثل ثاني أكسيد الكربون (CO2) والميثان (CH4)، وبما أن غاز CO2 يتم إنتاجه عن طريق حرق الأشياء، كالغاز أو النفط أو الخشب أو البلاستيك، فإن وجوده في هوائنا أكثر بكثيرٍ من غاز الميثان، وبالتالي فإن الآثار التراكمية ل CO2 تكون أكبر بكثير من الميثان، وإذا تمكنا من إزالة جزءٍ من غازات CO2 أو CH4 من الغلاف الجوي عن طريق تحويلها إلى مواد بلاستيكية، فإننا نكون فعليًّا قد منعنا هذه الغازات من إلحاق مزيدٍ من الضرر بالمناخ.
وبالفعل، تعمل إحدى الشركات الصغيرة المغامرة في كاليفورنيا، وتدعى Mango Materials، على الحد من مشكلة غاز الميثان في محطات معالجة مياه الصرف الصحي، من خلال تسخير قدرة ميكروباتٍ معينةٍ على احتجاز الميثان، والالتصاق به لإنشاء بوليمرات، يمكن استعمالها في تصنيع لدائن بلاستيكيةٍ مفيدة.
شركةٌ أخرى تدعى Filabot، تقوم بتحويل المواد البلاستيكية المستهلكة مثل زجاجات المياه، إلى خيوطٍ بلاستيكيةٍ تستخدمها الطابعات ثلاثية الأبعاد، وهذا النوع من إعادة التدوير أفضل بكثيرٍ من رمي البلاستيك في المحيط، أو حتى حرقه الذي يزيد من نسبة CO2.
ولدى الطبيعة الأم بحدّ ذاتها، عددٌ من الابتكارات الذكية التي بدأنا في اكتشافها وفهمها، فهناك أدلةٌ على أن بعض المخلوقات كاليسروع مثلًا، تمكنت من تطوير بعض الميكروبات المعوية، التي يمكنها تحليل بعض أنواع البلاستيك غير القابلة للتحلل البيولوجي، وهو اكتشافٌ قد يقود إلى أبحاثٍ جديدةٍ في مجال إعادة تدوير البلاستيك، على غرار البحث الذي نُشر قبل أسابيع قليلة، والذي بيّن كيف استطاع مجموعة علماءٍ يابانيين اكتشاف وتطوير إنزيمٍ قد يحدث ثورةً في عالم إعادة تدوير النفايات البلاستيكية.