هناك على الأقل واحد من كل خمسة أشخاص في العالم يعانون من الألم المزمن، وغالباً ما يكون السبب غير معروفاً، ولكن مؤخراً اكتشف العلماء الدور الرئيسي الذي يلعبه الدماغ في كيفية اختبارنا للألم، وكيف يمكن لذلك أن يمهد الطريق لتلقي العلاج المبتكر.
إن العبء الاقتصادي والاجتماعي الذي يولده الألم المزمن يمكن أن يكون هائلاً، ففي حين أن الأدوية المسكنة يمكن أن تساعد على تخفيف الآلام بالنسبة للكثيرين، فإن الآثار الجانبية، ومدى التحمل والإدمان الذي يمكن أن ينتج عن التعاطي الدائم لهذه الأدوية جعل من الضروري على العلماء أن يقوموا بالبحث عن علاجات بديلة، والتحدي المتمثل في تطوير مثل هذه العلاجات أدى إلى إجراء المزيد من البحوث حول دور الدماغ في الألم المزمن.
تبعاً للدكتورة (سيلفيا غوستن)، من قسم أبحاث علم الأعصاب في أستراليا، ففي الوقت الحالي، بدأت الجهود تتركز على دراسة منطقتين في الدماغ، إحداهما المهاد التي تعمل كبوابة بين الحبل الشوكي ومراكز الدماغ العليا، والأخرى هي قشرة الفص الجبهي.
عند حدوث إصابة حادة، فإن هناك فتحة في المهاد تسمح بمرور المعلومات من الجزء المصاب من الجسم إلى الدماغ، وهذا أمر مهم جداً، لأننا أصبحنا نعلم الآن بأنه بعد الشفاء من الإصابة الحادة، فإن هذه الفتحة تنغلق في الواقع.
عند فحص مجموعة من الأشخاص الذين يعانون من الألم المزمن، استطاعت (غوستن) تحديد وجود فرق عصبي رئيسي، وهو أن فتحة المهاد تبقى مفتوحة لفترة طويلة بعد ذهاب الألم الحاد، كما ووجد فريق (غوستين) انخفاض في حجم المهاد، مما أدى إلى انخفاض نسبة ناقل عصبي معين يدعى حمض غاما -أمينوبيوتيريك ، أو GABA)).
بحسب (غوستين) فإن هذا يعني بأنه لدى الأشخاص الذين يعانون من الألم المستمر، يكون هذا الممر مفتوحاً دائماً، وهذا يؤدي إلى تضخيم أي إشارة واردة إلى الدماغ وبالنتيجة إلى حدوث الألم.
وجد الباحثون أيضاً انخفاضاً في حجم الفص الجبهي في القشرة المنقطة في الدماغ لدى الأشخاص الذين يعانون من الألم المزمن، وهي منطقة الدماغ اتفق على اعتبارها بأنها المنطقة التي تقوم بتنظيم العواطف والتعبيرات الشخصية والسلوك الاجتماعي، وهذا بدوره يؤدي إلى المزيد من الانخفاض في الناقل العصبي (GABA).
هذا التغيرات تؤدي إلى تضخيم كل العواطف وكل الإدراكات، لذلك يصبح توقع الأشخاص الذين يعانون من الألم المستمر للألم مترافقاً مع الكثير من الخوف، وهذا يجعلهم يعانون من القلق أكثر الأوقات، والمشكلة أنهم لا يستطيعون كبت هذه المشاعر لأن قشرة الفص الجبهي قد فقدت قدرتها على تثبيط هذه الأفكار.
يمكن للقلق والاكتئاب والأفكار الانتحارية أن تكون مشكلة كبيرة بالنسبة لأولئك الذين يعيشون مع الألم المزمن، فـ20% من الأشخاص الذين يعانون من الألم المزمن يحاولون الانتحار، وهناك الكثير من المرضى الذين لا يمكنهم التوقف عن القلق، ولكن إخبارهم بأنهم يعانون من بعض التغييرات الطفيفة في الدماغ، وأنهم يعانون من هذا القلق بسبب تلك التغييرات، قد يساعدهم على التأقلم مع ذلك، لأنه في الكثير من الأحيان يمكن أن يتم وصمهم بالريبة من قبل المجتمع.
بالنسبة للعديد من المرضى، قد تكون الطبيعة الخفية لحالتهم أسوء ما قد يعانونه، حيث لا يمكنك لمن حولهم أن يروا الألم، وهذا شيء مهم جداً بالنسبة لهؤلاء الأشخاص، ولكن يمكن تثقيف هؤلاء الأشخاص بأن ما يختبرونه هو ألم جسدي ناتج عن تغييرات طفيفة في الدماغ.
وفقاً لـ(غوستن)، فإن البحث يوضح أن التفاعل بين خلايا الدماغ يمكن أن يتلف أدمغة الأشخاص الذين يعانون من الألم المزمن، ولكن لحسن الحظ يمكن تغيير ذلك، حيث أنه بالإمكان إغلاق ذلك الممر الذي يوجد في المهاد، ويمكن القيام بذلك من خلال الارتجاع العصبي، فبالإمكان تغيير الطريقة التي تتحدث فيها الخلايا مع بعضها البعض، ويمكن إعادة كتابة الذكريات المؤلمة حتى.
أهمية الإدراك
من خلال دراسة الأشخاص الذين يعانون من التهاب المفاصل، اكتشفت الدكتورة (تاشا ستانتون) من جامعة جنوب أستراليا بأن هناك العديد من العوامل المفاجئة التي تؤثر على الألم، بما في ذلك إدراك الشخص لجسمه، فإذا قمنا بإعطاء الأشخاص الذين يعانون من هشاشة العظام صوراً عن أيديهم في أحجام مختلفة، وطلبنا منهم أن يقوموا بانتقاء الصورة التي تمثل أيديهم بطريقة أفضل من غيرها، فأنهم سوف يختارون الصورة التي تظهر اليد في حجم أصغر بكثير مما هي عليه في الواقع، وهذا يشير إلى أن هناك تغييراً في تصورهم عن أحجام أعضاء جسمهم.
لكن الأمر لا يقتصر على ذلك، فقد لوخظ أيضاً أن هؤلاء الأشخاص يعانون من مشاكل في إدراكهم للمس، فعادة ما يكون هؤلاء الأشخاص غير جيدين في تحديد المكان الذي تم لمسهم فيه، كما أنهم ليسوا جيدين أيضاً في تحديد المكان الذي يوجد فيه عضو جسمهم في الفراغ.
تقول (ستانتون) بأن هذه الاختبارات تشير إلى أن الأشخاص الذين يعانون من الآلام المزمنة يعالجون المعلومات الخاصة بالمكان بشكل مختلف، وهي تأمل في استخدام هذه المعلومات الجديدة لتطوير علاجات جديدة، فإذا كان لدينا هذه التغييرات في الإدراك لدى الأشخاص الذين يعانون من الألم، فلماذا لا نستهدف هذا الإدراك بشكل مباشر؟
من خلال العمل مع الأشخاص الذين يعانون من التهاب مفاصل الركبة، قامت (ستانتون) بوضع سلسلة من التجارب “البصرية الوهمية”، تتمثل في جعل المرضى يرتدون نظارات فيديو في الوقت الذي يقوم فيه الباحثون بتغذيها بمقاطع فيديو مباشرة من ركبتهم.
كان المرضى يشاهدون الفيديو في الوقت الحقيقي، غير مدركين بأن الباحثين كانوا يغيرون سراً ما هو على الشاشة أمامهم.
إحدى أقوى المشاهد التي تم عرضها على المرضى كانت وهم التمتد، حيث أن المريض يرى ركبته تبدأ فجأة بالاستطالة، كما لو أن المفصل يتمدد ويجري سحبه، وفي الوقت نفسه، كان الباحثون يطبقون سحباً طفيفاً على عضلة ربلة الساق.
كانت كلا المعلومات البصرية واللمسية تخبر الدماغ، بأن ركبتك تتمدد بشكل كبير! وفي الحقيقة فإن بعض المرضى حصلوا على راحة من الآلام مع هذا النوع من الوهم.
وفقاً لـ(ستانتون)، فإن هذا البحث يدعم غيره من الأدلة التي تشير إلى أن المعلومات الواردة من أحد الحواس – مثل اللمس أو الرؤية- يمكن أن تعدل من المعلومات التي تأتي من الشعور من الحواس الأخرى، فدماغنا يأخذ المعلومات من كل هذه الحواس المختلفة – اللمس والصوت والرؤية و الحركة- ويضعها جميعاً معاً لكي يولد تصوراً أو شعوراً من جسدنا.
كيفية التحدث عن الألم
بحسب (توبي نيوتن جون)، في قسم علم النفس السريري في جامعة التكنولوجيا في سيدني، فإن الديناميات الاجتماعية حول الألم المزمن يمكن أن يكون لها “تأثير كبير جداً” على اختبار المرضى للألم في المستقبل، فإذا كان الشخص الذي يعاني من ألم يعبر عنه بشكل كبير، وكان شريكه يستجيب لتلك التعبيرات بطرق يجدها الشخص الذي يعاني من الألم مفيدة أو مرغوب فيها، فإنه يصبح أكثر احتمالاً لإظهار سلوكيات الألم في المستقبل، وبالمثل، فإذا لم يستجب الشريك بالطريقة المتصورة، فإن تلك السلوكيات ستكون أقل احتمالاً لأن تظهر في المستقبل.
في حين أن الشريك يمكن أن يزيد عن غير قصد من عجز المريض من خلال تقديم المساعدة العملية المفرطة، يشير (نيوتن جون) بأن استمرار تقديم الدعم العاطفي هو أمر حيوي للأشخاص الذين يعيشون مع الألم المزمن، فالأبحاث لا تقول بأنه لا يجب على الشركاء أن يكون لهم أي دور في التخفيف عن الأشخاص الذين يعانون من الآلام، فتبعاً لعلماء النفس السريري من المفيد أن يحرص الشركاء على الابتعاد عن النقاشات المستمرة التي تدور حول الألم، فعوضاً عن سؤال المريض “كيف حال ظهرك؟” يمكنهم سؤاله “كيف كان يومك اليوم؟”، وبدلاً من سؤال “هل أصبح ألمك أسوأ اليوم؟ يمكنهم سؤال “كيف تجد نفسك اليوم؟”.. وهكذا.