بحر غزة: ضحية الحرب الإسرائيلية الصامتة

بديعة الصوان
صورة توضح تكدس النفايات في بحر غزة

“أنا زي السمكة، إذا ابتعدت عن البحر بموت”،  بهذه العبارة وصف الصياد رائد النجار من شمال غزة علاقته ببحر غزة، الذي لم يكن مجرد مصدر رزق، بل امتدادًا لحياته وهويته. لكن هذا البحر نفسه تحوّل في الشهور الأخيرة إلى مساحة ملوثة، محاصرة، وخطرة.

قبل السابع من أكتوبر2023، ورغم القيود الشديدة التي فرضها الاحتلال على حركة الصيادين، كانت الحياة البحرية لا تزال تمنح الصيادين شيئًا من الأمل. لكن الحرب الأخيرة لم تترك شيئًا على حاله، إذ تدمر الشاطئ، والقوارب أُحرقت، والمياه تلوّثت بمخلفات الأسلحة والمصانع المستهدفة.

هذا التقرير يوثّق، من خلال شهادات الصيادين وتحليل المعطيات البيئية رغم قلتها، كيف تحوّل بحر غزة إلى ضحية صامتة للحرب، وكيف أصبح الخطر لا يهدد الإنسان فقط، بل النظام البيئي البحري بأكمله.

التلوث الكيميائي الناتج عن الحرب

لم يكن البحر في غزة خلال الأسابيع الأولى من الحرب مجرد مشهد للصواريخ والدخان، بل تحول شيئاً فشيئاً الى بؤرة تلوث بيئي خطير، إذ وثقت تقارير أممية وحقوقية استخدام جيش الاحتلال لأسلحة مثل الفوسفور الأبيض والذخائر العنقودية في مناطق ساحلية، مما أدى إلى تسرب كميات هائلة من المواد الكيميائية السامة إلى مياه البحر.

وفي خضم القصف المستمر، لم تنجُ المنشآت الصناعية ومصافي الوقود القريبة من الساحل من تدفق الزيوت الثقيلة والمواد البترولية إلى البحر مباشرة، دون أي إمكانية للمعالجة أو الاحتواء.

 ورغم أن الأثر الأولي ظهر في دمار القوارب والبنية التحتية، إلا أن التلوّث البيئي خلفته هذه المواد كان أعمق بكثير كما يقول  الصياد رائد النجار ويضيف:

       “الاحتلال منعنا من الصيد، ما خلّاش إشي. لا قوارب، لا شباك، لا محركات… كل أدوات الصيد تم قصفها”.

وكما يؤكد الخبير البيئي الفلسطيني خالد أبو علي، تشمل المواد المتسربة الديزل، الوقود الثقيل، الزيوت الصناعية، ومشتقات البنزين. هذه المواد تصل إلى البحر نتيجة قصف محطات الكهرباء، وخزانات الوقود في المستشفيات، وبعض المنشآت الصناعية والتجارية. كما يمكن أن تتسرب من السفن أو من الميناء المتضرر بشكل كامل.

ويضيف أن احتراق الآليات العسكرية قرب الشاطئ يؤدي إلى إطلاق كميات إضافية من الملوثات الكيميائية التي تختلط بمياه البحر، ما يزيد من حجم وخطورة التلوث على الحياة البحرية والبشرية.

       وما لم يُقصف، قضت عليه السموم، إذ أن  المياه نفسها لم تعد صالحة للحياة البحرية، ولا حتى للوجود البشري الآمن، وتشير التقديرات الدولية مثل تقرير لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة (UNEP) إلى أن ما يزيد عن 130,000 متر مكعب يوميًا من مياه الصرف الصحي غير المعالجة تدفقت إلى البحر منذ بداية التصعيد في أكتوبر 2023، نتيجة تعطل محطات المعالجة بسبب نقص الوقود والانقطاع المتكرر للتيار الكهربائي.

أما فيما يخص مخلفات الأسلحة الثقيلة، فقد وثقت منظمات مثل Human Rights Watch وAmnesty وبعض التقارير الدولية أن استخدام الفوسفور الأبيض استُخدم في مناطق سكنية وساحلية في غزة، ما أدى إلى إطلاق مواد كيميائية يمكن أن تذوب في الماء وتتسبب بتسميم السلسلة الغذائية البحرية وتشكل مصدرًا للتلوث طويل الأمد في النظام البيئي.

وبحسب بيان رسمي صادر عن سلطة المياه وجودة البيئة في قطاع غزة في يوليو 2025، فإن نحو 40% من شاطئ البحر في غزة ملوث وغير آمن للسباحة، نتيجة لتصريف كميات كبيرة من المياه العادمة، المعالجة وغير المعالجة، بشكل يومي إلى البحر. وقد بيّنت نتائج الفحوص الميكروبيولوجية أن السباحة في هذه المناطق قد تؤدي إلى التهابات في الجهاز التنفسي والهضمي والجلد والعينين، بحسب منظمة الصحة العالمية.

التنوع البيولوجي

في غزة، حيث المياه النظيفة شحيحة أصلًا، يتحول التلوث البحري إلى كارثة حقيقية تهدد الحياة اليومية.

يصف الباحث البيئي خالد أبو علي الوضع البحري هناك بكلمات يختلط فيها القلق بالعجز. “الإشكالية الأكبر،” كما يقول، “هي أننا كفرق مختصة في البيئة لا نملك القدرة على الوصول إلى الساحل بسبب الحصار والحرب، لكن المؤشرات التي تصلني من أصدقائي هناك ومن الصيادين تنذر بكارثة بيئية حقيقية.”

بحسب ما ينقله أبو علي، بدأ التدهور واضحًا في النظام البيئي البحري. أعداد أسماك السردين والبوري، وهي من أهم الأنواع التجارية في غزة، انخفضت بشكل حاد. “الصيادون يخبرونني أن حجم المصايد تقلص بشكل كبير، وكميات الصيد باتت شبه معدومة،” يقول أبو علي، مضيفًا أن أنواعًا غير مرغوبة بدأت تظهر بكثرة في الشباك، ما يشير إلى اختلال التوازن الطبيعي للبحر.

الصورة التي يرسمها أبو علي عبر ما يسمعه من الداخل مقلقة. فقد تم تسجيل حالات نفوق مفاجئ ومتكرر للأسماك والكائنات القشرية، وتغيرت طبيعة المياه. “المياه أصبحت عكرية، وروائح كريهة تنتشر على طول الساحل، والزيوت والمواد الدهنية عالقة على السطح بشكل واضح،” يوضح أبو علي.

يؤكد نقيب الصيادين في غزة زكريا بكر، لمجلة نقطة علمية، نفوق مجموعات كبيرة من الأسماك التي تلفظها الأمواج على الشاطئ، لكنه يقول ” من الصعب تحديد السبب بدقة، سواء كان نتيجة تصريف كميات ضخمة من مياه الصرف الصحي إلى البحر أو بسبب التدمير الناتج عن القصف المدفعي والصاروخي المستمر والحرب ما زالت مستمرة”.

ويضيف أبو علي لنقطة علمية، أن النظام البيئي العميق لم يسلم من الضرر. “الشعاب المرجانية وأعشاب البحر تعرضت لتأثير مباشر، ومواقع تجمع الأسماك تراجعت. وحتى قاع البحر أصبح مليئًا بالرواسب والحطام العسكري من زوارق وقوارب مدمرة، وهذا يغير بيئة الأسماك والرخويات ويؤدي إلى فقدان التنوع البيولوجي.”

فتحت الأمم المتحدة تحقيقاً في تدمير البيئة، لن تظهر نتائجه بسبب استمرار الحرب، بينما يقول باحثون ومنظمات بيئية إن هذا التدمير سيكون له آثار بعيدة المدى على النظم البيئية والتنوع البيولوجي في قطاع غزة، وهو ما يستوجب التعامل معه على أنه “إبادة بيئية” والتحقيق فيه كجريمة حرب محتملة.

هذه الدمارات تسببت بخسارة أنواع كثيرة، بعضها قد ينقرض إلى الأبد، وفقا لسلطة جودة البيئة إذ تحولت الأرض إلى جبال من النفايات المختلطة بمياه الصرف الصحي، التي تتدفق مباشرة إلى البحر، مرورًا بمحمية وادي غزة، التي كانت ملاذًا للطيور في رحلات هجرتها.

اليوم، هذه المحمية أصبحت مقبرة صامتة، فآلات الحرب أرعبت حتى الزواحف التي كانت في سباتها الشتوي، لتخرج مذعورة وتلقى حتفها تحت الأنقاض أو في مياه ملوثة، وفقا للسلطة.

الآثار لم تتوقف هنا، فقد لاحظت السلطة تغيرات في سلوك الحيوانات البرية، حيث هجمت بعضها على جثث الشهداء بحثًا عن الطعام، علامة خطيرة على شدة المعاناة، هذا التلوث يزيد خطر الطفرات والتشوهات، ما يجعل مستقبل التنوع البيولوجي في غزة مهددًا بشدة.

ورغم شح المعلومات إلا أن الأرقام الصادرة عن وزارة الزراعة حتى ديسمبر/ كانون الأول 2024  كشفت أن القطاع فقد نحو 4 آلاف و600 طن من كمية الإنتاج السمكي بخسارة تصل إلى 20 مليونا و129 ألف دولار، فيما لم يتم تحديث هذه المعطيات.

وبحسب تقارير  وبيانات صادرة في 2024-2025، الحرب في غزة خلّفت حوالي 39 مليون طن من الأنقاض ملوثة بالمواد الخطرة مثل الأسبستوس، المعادن الثقيلة، والذخائر غير المنفجرة، مما أدى إلى تلوث خطير للتربة والمياه والهواء.

والظاهرة التي رصدها صيادو قطاع غزة في حديثهم لمجلة نقطة علمية، غياب السلاحف البحرية من شواطئ غزة والتي تسبب في اختلال كبير بالتوازن البيئي البحري. السلاحف تعتبر من الكائنات التي تتحكم بشكل طبيعي في أعداد قناديل البحر، لأنها تتغذى عليها بشكل رئيسي.

 مع غيابها، تكاثرت قناديل البحر بشكل غير طبيعي، ما أدى إلى زيادة الحوادث المؤذية للمصطافين والصيادين بسبب لسعاتها المؤلمة. هذا الانتشار غير المراقب للقناديل يؤثر سلبًا على النشاط البحري والسياحي في القطاع مما يسبب خللاً في السلسة الغذائية البحرية، وفق حديثهم.

الصيادين والمجتمع المحلي

على شاطئ غزة، حيث كان الصيادون يبحرون مع الفجر حاملين أحلامهم وأرزاقهم، أصبح الصمت سيد المكان. المراسي خاوية، والقوارب محطمة، والأفق الذي كان يعدهم برزق وفير بات محاطًا بالخطر والحصار.

هنا تبدأ قصة الصيادين والمجتمع المحلي، حيث تحولت مهنة الصيد من مصدر حياة إلى معركة يومية للبقاء، وسط قيود صارمة وخسائر فادحة في الأرواح والممتلكات.

“نحن لم نعد نملك البحر كما كنا” يقول الصياد أبو علاء، وهو يتحدث عن قاربه المحطم، ، “الاحتلال منعنا من الصيد بحرية، وقواربنا التي كانت تعني لنا الحياة، اليوم أصبحت رمادًا لا نقدر حتى على إصلاحه. نخاف أن نبحر، نخاف أن نعود، لكن البحر هو كل ما نملك”.

تشير الأرقام الصادرة عن وزارة الزراعة في غزة حتى ديسمبر/ كانون الأول 2024 إن الجيش الإسرائيلي قتل منذ 7 أكتوبر 2023 حوالي 200 صياد من أصل 4 آلاف و500.

كما أفادت بأن الجيش دمر خلال أول 14 شهرا من الإبادة نحو 270 غرفة للصيادين و1800 مركب من أصل 2000 مركب، والميناء الرئيسي بغزة والمراسي الصغيرة بالقطاع.

ومنذ العام 2000 الوقت انخفض عدد الصيادين المسجلين في غزة من 10 آلاف إلى حوالي 4 آلاف فقط، نتيجة القيود والحصار الإسرائيلي التي تحد من حركة الصيد بشكل كبير، بحسب المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان.

يعتمد عدد كبير من سكان غزة على الصيد كمصدر أساسي للدخل والغذاء، إلا أن تلوث الممرات البحرية يضر بشكل بالغ بالنظام البيئي البحري، ويؤثر على صحة الأسماك ويهدد سبل عيش الصيادين، خاصة مع محدودية وصولهم إلى مناطق الصيد.

يروي الصياد رائد النجار أن الصيد أصبح خطيرًا جدًا، فالزوارق الحربية الإسرائيلية تمنع الصيد والسباحة، ومن يقترب من البحر يخاطر بحياته. فقد تم تدمير كافة قوارب الصيد وحرقها، مما أجبر الصيادين على استخدام قوارب صغيرة وبدائية. هذه المعاناة موثقة بتسجيلات مصورة حصلت عليها نقطة علمية، توثق استهداف الاحتلال للصيادين أثناء عملهم في البحر.

من جهته، يشير نقيب الصيادين في غزة، زكريا بكر، إلى أن قطاع الصيد يعد ثاني أهم قطاع إنتاجي بعد الزراعة، ويشمل خمسة مراسي رئيسية بالإضافة إلى ميناء غزة الذي يضم أكبر عدد من المراكب والصيادين. يعمل في القطاع حوالي 6000 صياد رسمي وغير رسمي، بالإضافة إلى أكثر من 1000 عامل في مجالات مرتبطة مثل تسويق الأسماك والصناعات البحرية. ورغم ذلك، فإن الاحتلال يمنع الحركة البحرية بالكامل منذ أكثر من 21 شهرًا، حيث لا يسمح للصيادين بالوصول إلى أكثر من 800 متر من الشاطئ، مما أدى إلى تراجع كبير في الإنتاج.

يُضاف إلى ذلك التدمير الشامل الذي طال بنية الصيد التحتية، حيث دُمرت نحو 95% من مراكب الصيد، بما فيها القوارب الكبيرة والصغيرة، كما تم تدمير غرف الصيادين ومعداتها بالكامل. كما تعرض ميناء غزة لقصف مكثف أدى إلى تعطيله تمامًا، إضافة إلى إغراق أكثر من 700 مركب في حوض الميناء. هذا التدمير الكبير انعكس على كميات الصيد، حيث تراجع الإنتاج من حوالي 3500 طن سنويًا قبل الحرب إلى كميات صغيرة جدًا، مع استمرار تلوث المياه.

خلال الصراع، فقد قطاع الصيد أكثر من 210 صيادين، منهم حوالي 60 استشهدوا أثناء محاولاتهم دخول البحر، مما يزيد من حجم المعاناة التي يواجهها الصيادون في غزة، سواء من ناحية المعدات أو البيئة البحرية أو القيود الإسرائيلية، الأمر الذي يشكل تحديًا هائلًا أمام استمرارهم في عملهم وضمان أمنهم الغذائي، وفق حديثه.

شارك المقالة