يبدو أن عوامل كثيـرة ساهمـت في فلسفة المعرّي في الحيـاة .. ولا يمكن تجاهل عماه .. كونه من الأسباب الرئيسية لذلك .. فنراه كثير الشك ، يسيء الظن بما حوله ، ولا يثق بأحد ، كل شيء في الحياة قابلٌ للنقد والتشكيك .. وتلك النظـرة التشـاؤمية الطاغية على كثيـر من أبيــاته وعلى أسلوب حياته ..! وتعزى تلك النظـرة التشاؤمية عند إبي العلاء لسوء الأحوال في عصـره ، ولنقصٍ كان يراه في نفسه ، وربما كره أبو العلاء الحياة الدنيا ، وتمنى لو يموت لينتقل للحياة الأخرى ، وتنتهي معاناته في الحياة ، ويتخلص من نظرات الناس له ومن حظه السيء حيث يقول :
رَبِّ مَتى أَرحَلُ عَن هَذِهِ ال *** دُنيا فَإِنّي قَد أَطَلتُ المُقام
لَم أَدرِ ما نَجمي وَلَكِنَّهُ *** في النَحسِ مُذ كانَ جَرى وَاِستَقام
لم يكن المعرّي يريد من فلسفته سوى معـرفة الحق والوصـول إليه ، فـنراه يبحث وينقّب عنه ، وكثيـرا ما كان يغيـّرآراءه أو يناقض نفسه ، فقد كانت فلسفتة متقلبة غير ثابـتة ..
فنـراه في بعض الأحيـان يدعو الناس للتخلي عن الأديان وترك التمسك بها ، وعدم الإعتراف بوجودها ويدعو للأخذ بما يقوله العقـل والعقـل فقط .. فكل ما وراء العقـل خداع .. فـ يقول :
دينٌ وكفرٌ وأنْبَاءٌ تُقَّصُ وفر *** قانٌ يَنُصُّ وتوراةٌ وإنجيلُ
في كل جيلٍ أباطيلٌ يُدانُ بها *** فهل تَفَرّ>َ يوماً بالهدى جيلُ
وفي مواضـع أخـرى يصـرخ في شـعره منادياً للتمسـك بالديـن فهو الحق المبين :
نبَذتُمُ الأَديانَ مِن خَلفِكُم *** وَلَيسَ في الحِكَمةِ أَن تُنبَذا
لا قاضِيَ المِصرِ أَطَعتُم وَلا *** الحَبرَ* وَلا القَسُّ* وَلا الموبَذا*
أما نقد المعرّي للمجتمع فـ كان كثيـر جداً ، فهو يعيب على الناس بعض أخلاقهم ولا يفرّق في النقد بين أحـد ، سواء كان عربياً أم أعجمياً .. وكان يسخر من طباع بعض الرجـال ومن حبهم لذواتهم ، وحتى طلب الشكـر على ما قاموا به لأن عمل الخير يجب أن لا يطلب الشكـر عليه .. ويكـره من الناس من يدعو لفعل الخيـر وترك الشر وينسى نفسه فيقول :
عَلَيكَ بِفِعلِ الخَيرِ لَولَم يَكُن لَهُ *** مِنَ الفَضلِ إِلّا حُسنُهُ في المَسامِعِ
ويربط المعرّي سوء الخلق وحسنه بالدين ، ويتعجّب كيف يكون الإنسان صاحب دين ، وخلقه سيء ..! :
وَإِذا تَساوت في القَبيحِ فِعالُنا *** فَمَنِ التَّقيُّ وَأَيُّنا الزِّنديقُ؟..
ولو جئنا لنعرف رأي المعرّي بالمرأة لاستغرب كثير ، فالمعرّي يكره المرأة كرهاً كبيراً ، ونقدها في أبيات كثيـرة من شـعره ، ، كان لاذعاً وخشنا في كلامه عن المـرأة ، فقد كان يراها سبب بلاء المجتمع ونكبته ، وكما نعرف عن إبي العلاء كرهه للحياة وتمنيه لهذا العالم الفناء والموت ، وكرهه للمرأة جزء من ذلك ، لأن المرأة هي من تنجب وتكثر النسـل ، وتزيد في العالم البؤساء التعساء ، فلولاها لانتهى العالم ولتحقق ما أراد المعرّي .
وكان لا يرى المرأة إلا ظالمة ، تجيد الكيد والتملق والتلاعب بالعواطف والمشـاعر كاذبة في كل أحوالها ، حتى وصـل به الأمـر لترك إلقاء التحية على المرأة فـ يقول :
وَلا تُرجِع بِإيماءِ سَلاماً *** عَلى بيضٍ أَشَرنَ مُسَلِّماتِ
أُلاتُ الظَلمِ جِئنَ بِشَرِّ ظُلمٍ *** وَقَد واجَهنَنا مُتَظَلِّماتِ
وينتفض المعرّي صارخاً في وجه من انتظـر يوم زفافه لعروسه ، بأن عروسه ليست سوى أفعى خبيثة ، لن تنجب له سوى التعساء الأشقياء والأعداء :
عَروسُكَ أَفعى فَهَب قُربَها *** وَخَف مِن سَليلِكَ فَهُوَ الحَنَش
ويبدو أن تلك الشمس التي أشرقت بولادة ذلك الشاعر العظيم والفيلسوف الرائع ، كانت قد أزمعت على الغروب ، فقد توفي أبو العلاء المعرّي بعد أن مرض مرضاً ألزمه الفراش ، ويبدو أن أبا العلاء الذي كره الدنيا وما فيها وتمنى يوماً الموت والراحة ، قد حزن لفراقها ، وهذا حال جميع البشـر ورغبتهم بالبقاء ، فـ توفي أبو العلاء عن عمر ملؤه العلم والعطاء والإبداع وقد بلغ من العمـر ستاً وثمانين سنة 449 هـ . ودفن في معرّة النعمان وقد أوصى بأن يكتب على قبره :
هذا ما جنــاه أبي عليّ *** وما جنيتُ على أحــد