في أحد أيام شهر نيسان من عام 2010، دخل رجل في منتصف الثلاثينيات إلى مختبر الاعلام في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في بوسطن، وهناك التقى “بشخص”، وبعد دردشة مهذبة لبعض الوقت، سأله ذلك الشخص: “ماذا تفعل هنا؟”، عندها أوضح الرجل بأنه عداء ماراثون وهو عالق في المدينة بسبب ثوران البركان في أيسلندا، ومن ثم حدث شيء غير عادي، فقد استلقى الرجل على الأرض، وواصل حديثة إلى ذلك الشخص متكلماً عن مشاكله وقصته، وقد أبدى الرجل خلال ذلك الحديث انفتاحاً وصراحةً يمكن أن تعجب لها.
قد يقول أي شخص ما الغريب في هذا الموضوع، حسناً، الغريب في الموضوع أن الرجل كان يتكلم إلى روبوت صغير كان قد تم بناؤه مسبقاً في المختبر، وكان هذا الروبوت يدعى (Boxie)، وهو مزود بكاميرا، وقادر على طرح الأسئلة على الأشخاص الذين يلتقي بهم، وعلى الرغم من أن (Boxie) كان قد تم تصميمه لإثارة ردود فعل البشر العاطفية، إلّا أن ما حدث آنذاك كان مذهلاً، ولم يكن من المتوقع أن يستطيع هذا الروبوت استخلاص تفاصيل حميمة من الغرباء بهذه السهولة.
الصورة: روبوت (Boxie)
هذه الحادثة طرحت تساؤلاً لدى الباحثين، عن السبب الذي قد يدفع شخصاً ما للانفتاح بهذه السهولة أمام شيء بسيط نسبياً؟ ولماذا قد يهتم بالنزول والاستلقاء على الأرض في مكان لم يسبق له وأن كان فيه من قبل، فقط ليستطيع النظر وجهاً إلى وجه مع الروبوت الصغير، وكل ذلك للتحدث إلى صندوق مصنوع من الورق المقوى بوجه لطيف وودود، ويمتلك صوتاً طفولياً، مع العلم إن الرجل كان يعي بالتأكيد بأن هذا الروبوت لم يكن قادراً على الاستماع إليه في الواقع.
هذه التجربة تطرح أيضاً تساؤلاً مهماً آخر بشأن مستقبلنا مع الذكاء الاصطناعي، فكيف سنقوم بالتفاعل مع الروبوتات الاجتماعية عندما تصبح أكثر انتشاراً؟
منذ ذلك الحين، قام الباحثون في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا ببناء العديد من الروبوتات القادرة على انتزاع استجابات غير متوقعة، وتم بعد ذلك إرسالها للقاء العديد من الأشخاص – ابتداءاً من المارة العاديين وحتى رواد الفضاء- وما وجده الباحثون حتى الآن يشير إلى أن كائنات الذكاء الاصطناعي سيكون لديها القدرة على التأثير في سلوكنا بطرق لا ندركها حتى الآن.
خلال تصميم الروبوتات الجديدة، عمل الباحثون على استخلاص جوانب الروبوت التي تجعل الأشخاص يريدون التحدث إليه والانفتاح أمامه، وشمل هذا تصميمها لتكون أصغر حجماً وأكثر وداً، وتحدثها بصوت طفل، وتحسين الأسئلة وجوانب هذه الروبوتات التفاعلية، وتماماً كما كان الحال مع (Boxie)، كان كل روبوت يمتلك أيضاً لكاميرا داخل رأسه لتصوير إجابات الأشخاص.
تم إرسال الروبوتات التي سميت بـ(BlabDroids)، إلى المتنزهات والأماكن العامة والمهرجانات السينمائية الدولية، مثل (IDFA) و(تريبيكا)، لإجراء مقابلات مع الأشخاص المتواجدين في مختلف الأماكن والثقافات، وكانت الفكرة إنشاء أول فيلم وثائقي يتم تصويره من قبل الروبوتات، وعلى مدى السنوات القليلة الماضية، قامت هذه الروبوتات بزيارة أشخاص من الولايات المتحدة الأمريكية وهولندا والصين والسويد وسويسرا وكندا والمملكة المتحدة وغيرها.
لم يستغرق الأمر وقتاً طويلاً بالنسبة للباحثين كي يكتشفوا بأن الأشخاص يتعاملون مع الروبوتات على مستوى لم يكن يتوقعه أحد من قبل، حيث ارتفع متوسط وقت التفاعل من حوالي ثماني دقائق مع الـ(Boxie) إلى ما متوسطه حوالي 30 دقيقة مع هذه الروبوتات الجديدة، وعلاوة على ذلك، فإن الأشياء التي قام الأشخاص بكشفها أمام الـ(BlabDroids) كانت تتضمن قصص وأشياء شخصية جداً لا يقولونها عادة لشخص غريب، مع العلم أن الروبوت كان يخبر الأشخاص الذين يقابلهم بأنه سيقوم بتسجيل المقابلات لفيلم وثائقي سيظهر في وقت لاحق في المهرجان، لذلك لم يكن هناك أي نوع من الخداع للحصول على هذه الردود.
إليكم بعض المحادثات التي أجراها الروبوت:
(BlabDroid): “ما هو أسوأ شيء قمت به تجاه شخص ما؟”
الشخص الأول: “لم أخبر والدي بأنني أحبه قبل وفاته”.
الشخص الثاني: “أسوأ شيء فعلته في أي وقت مضى كان عندما جعلت والدتي تغرق بعض القطط الصغيرة في أحد المرات، ولم أدرك إلّا لاحقاً بأن القيام بهذا هو شيء صعب للغاية بالنسبة لها كي تفعله، ومنذ ذلك الحين وأنا لا استطيع مسامحة نفسي لجعلها تغرق تلك القطط الصغيرة، فعلى الرغم من أنه لم يكن بإمكاننا الاحتفاظ بها إلّا أنه كان يجب عليّ الخروج بوسيلة أخرى.”
(BlabDroid): “ما هو الشيء الذي لم تخبر به شخص غريباً قط؟”
الشخص: “عندما كنت طفلاً لم أكن أحب التبول في الحمامات العامة، لذلك كنت أفضل أن أحبس البول حتى أصل إلى المنزل، ولكن في أحد الأيام كنت أركب دراجتي ولم يعد باستطاعتي حبسها أكثر من ذلك، لذلك تبولت على نفسي وتركت ذيلاً مبلولاً ورائي”.
(BlabDroid): “إذا كنت تستطيع أن تخبر أحداً بألا يرتكب الخطأ نفسه الذي فعلته أنت، فما الخطأ الذي ستخبره بأن يتفاداه؟”
الشخص: “إنجاب الأطفال”.
الفيديو : مقابلة لروبوت (BlabDroid) مع رائد فضاء
إن الطبيعة الصريحة لردود الأفعال التي استطاع (BlabDroid) جمعها، جعلت الباحثين يدركون مدى القوة الاجتماعية للروبوتات، فهي لا تجعل البشر يثقون بها تماماً وحسب، بل إنها كانت تتواصل معهم على مستوى اجتماعي يسمح بوجود مستوى عالي من الراحة، حيث استطاعت هذه الروبوتات الولوج إلى مكان من أذهان الأشخاص عادة ما يكون مخصصاً للأشخاص الذين يثقون بهم، وهذا شيء مهم للغاية.
يعلم علماء النفس أننا بطبيعتنا الإنسانية نعمل على إعطاء الأشياء الجامدة صفات إنسانية، وقد ظهر ذلك بوضوح في التجربة الشهيرة التي تم إجراؤها في أربعينيات القرن الماضي، من قبل (فريتز هيدر) و(ماريان سيمل)، حيث طلبوا خلالها من الأشخاص المشاركين في التجربة أن يشاهدوا فيلم مؤلف من أشكال بسيطة تتفاعل مع بعضها، ووجدوا من خلال ذلك أن الأشخاص يميلون لإعطاء تلك الأشكال صفات إنسانية، حيث وصف معظم المشاركين المثلث بأنه “لئيم” و “بلطجي”، في حين وصفوا الأشكال الأخرى بأنها “خائفة” أو “خجولة”.
فيديو: أشكال بسيطة تتفاعل مع بعضها، والسؤال ماذا يخيل لك بأن البالونات تفعل؟
من المشاريع الفنية الأخرى التي تظهر تأثر الأشخاص بتشخيص الآلات، كان مشروع تم تقديمه من قبل كل من (ألكسندر ريبين) و(أليسيا إغرت) في عام 2012، ولكن هذه المرة، كان الاختبار يتضمن جعل بعض الأشخاص يشعرون بعدم الارتياح، حيث تم تصميم جهاز النبض، كما قام المصممون بتسميته، وهو مؤلف من طبل يتم ضربه بواسطة عصى روبوتية مرتبطة مع آلية للعد التنازلي تقوم باحتساب العمر الافتراضي للروبوت، وعمرها مؤلف من عدد الدقات التي تقوم الذراع بالضرب بها على الطبل، حيث تنتهي بانتهائها حياة الروبوت (افتراضياً).
فيديو: جهاز النبض
أخبر الباحثان المشاركين بأن الجهاز ولد لتوه عند بداية التجربة، بعد ذلك بدأت الآلة بالنبض وبدأت آلة العد التنازلي تتناقص ببطء حتى وصلت لمرحلة التوقف التام عن النبض، بمعنى موت الروبوت وانتهاء حياته، ومن خلال هذا الإجراء البسيط، استطاع الباحثان الحصول على ردات فعل مختلفة من الأشخاص المشاركين في التجربة، ولكنها كانت في مجملها شخصية للغاية أيضاً، حيث رأى البعض أن هذا كان رهيباً وكانوا يظهرون علامات الامتعاض، في حين رأى آخرون أن هذا قد أعطاهم بعض الطاقة للخروج والقيام بشيء ما، فتبعاً لهم، ذكرتهم هذا التجربة بأن الحياة قصيرة، ومن جهة ثانية، أشار شخص بأن التجربة جعلته يشعر بالحزن، لأنه ذكره بوفاة أحد أحبائه.
من خلال هذه التجربة يظهر بأن هناك مشاعر عميقة جداً قد تولدت من خلال طبل وساعة للعد التنازلي، فبالنسبة لأولئك الذين شاهدوا التجربة، فإن الجهاز وُلِدَ، وأصبح على قيد الحياة، ولكنه في النهاية يموت، لذلك فإن هذه التجربة تدل على أن الإنسان لا يبذل الكثير من الجهد حتى يطلق صفات إنسانية على الآلات ويتعامل معها كأنها بشر، كما بينت أيضاً مدى التعاطف الذي نبديه كبشر مع الأشياء التي ليست مثلنا.
في الواقع، إن ميلنا كبشر لتشكيل العلاقات مع الآلات أصبح واضحاً أكثر خلال العقود الماضية، وذلك بعد استحواذ الآلات على جزء أكبر من حياتنا، فمن المعروف بأن بعض الجنود يقيمون الحداد على روبوتاتهم القاذفة للقنابل، وإن أصحاب كلاب (Aibo) الالكترونية في اليابان أصبحوا يقيمون الجنازات لكلابهم وحيواناتهم الأليفة الروبوتية عندما تصبح خارجة الخدمة، لذلك فإذا كان من الممكن لجهاز أن يصبح تجسيداً لشيء حي، فإنه ومما لا شك فيه بأن “موته” يمكن أن يؤدي إلى إقامة حداد حقيقي.
كل هذا يثير بعض الأسئلة الأخلاقية الصعبة أثناء صنعنا لروبوتات أكثر ذكاء وأكثر قدرة على التحدث معنا، فما مدى التجسيد والحقيقية التي نريدها أن تكون موجودة ضمن هذه الروبوتات؟ وما مدى قدرة هذه الروبوتات التي صممت لتحريك عواطفنا على التلاعب بنا؟ وأين يجب على المرء أن يضع الخط الفاصل؟
تبعاً للفيلسوف (جون كامبل)، فإن أحد الاحتمالات التي يفتحها هذا الأمر هو أتمتة الجوانب العاطفية من حياتنا، تلك الجوانب التي عادة ما نعتمد فيها على الآخرين ليتعاطفوا معنا ويدعمونا، فبدلاً من الاعتماد على شريك حياتنا للاستماع إلى مشاكلنا التي مررنا بها في العمل طوال اليوم، لماذا لا نفسرها لروبوت متعاطف يمكن أن يقوم بإجراء اتصال بالعيون معنا، ويستمع باهتمام واضح لما نقوله، ويقوم بإصدار جميع الأصوات الصحيحة التي نحتاج إلى سماعها، ويتذكر كل ما نقوله؟
بمجرد قبولنا بأن الجهاز على قيد الحياة، فإن أي علاقة يمكن أن نشكلها معه ستكون على ذات المستوى من العلاقات التي يمكن أن نشكلها مع أي كائن حي آخر، وهكذا، فإن الاعتقاد بأن الروبوت حي في أذهاننا، يمكن أن يشكل أهمية كبرى بالنسبة لمستقبل علاقة الإنسان بالآلة، حيث أن الروبوت لا يحتاج لإقناعنا بأنه بشري، فنحن على استعداد للاقتناع بذلك بالفعل.