طوال حياته المهنية كان أستاذ علم الأعصاب في جامعة ديوك (ألين روزيز) يتحدى ما كان لعقود العقيدة السائدة في أبحاث أمراض الزهايمر، أو ما يدعى بـ”فرضية اميلويد،” والتي تقول بأن هناك بروتين يسمى (بيتا أميلويد) يتجمع بالدماغ، مما يسفر عن مقتل الخلايا العصبية ويسبب الخرف المرتبط بمرض الزهايمر، ولكن بحسب (روزيز) فإن تشكل بروتين (بيتا أميلويد) هو في الواقع نتيجة للإصابة بمرض الزهايمر وليس مسبباً له.
لأكثر من 20 عاماً، انتهج (روزيز) حدساً مفاده أن الخرف الذي يصيب مرضى الزهايمر ينتج من عدم قدرة الدماغ على القيام بعملية الاستقلاب لمصادر الطاقة، مثل الجلوكوز والأوكسجين، وذلك بسبب حدوث تغييرات في اثنين من الجينات –(APOE) و(TOMM40)- تمنع في نهاية المطاف الميتوكوندريا من توريد الطاقة إلى الخلايا العصبية، مما يؤدي لموتها، وتبعاً لـ(روزيز) فإن هناك مجموعة متزايدة من المقالات المنشورة التي تدعم نظريته، ولكن حتى الآن فقد تم تجاهلها إلى حد كبير من قبل الحقل العلمي.
انتقل (روزيز) من الأوساط الأكاديمية إلى المجال الصناعي ومنه إلى الأوساط الأكاديمية مرة أخرى، مواجهاً بذلك قلة التمويل وحتى مشاكله المالية الخاص من أجل التأكيد على نظريته المضادة لما وصفه بـ”عبادة الاميلويد”.
إن تزايد أهمية الأميلويد في مجال أمراض الزهايمر يعود إلى سبعينيات القرن الماضي، عندما قامت المعاهد الوطنية للصحة (NIH) بتشكيل المعهد الوطني للشيخوخة (NIA)، فمنذ ذلك الحين أصبح مرض الزهايمر المجال البحثي الرئيسي، وقد كانت الملاحظة الرئيسية التي انبثقت عن دراسات مدعومة من قبل (NIA) هي أن المرضى الذين يعانون من الزهايمر لوحظ لديهم تراكم غير طبيعي من بروتينات (بيتا اميلويد)، وإن تواجد هذا البروتين إلى جانب بروتين آخر يسمى (تاو) كان يؤدي إلى تشكيل لويحات وتشابكات يبدو وكأنها ذات تأثير سام على الخلايا العصبية.
يشير (زافين خاتشاتوريان)، الذي يعرف باسم “والد بحوث الزهايمر” في الولايات المتحدة لإشرافه على العمل في هذا المجال في (NIA)، أن بحث مشابه أصدره (جورج جلينر) في عام 1984، قدم فيه وصفاً لهيكل (بيتا اميلويد)، أثار اهتمام علماء البيولوجيا الجزيئية والوراثة في هذا المجال، وهنا كانت بداية القصة الحديثة للاميلويد.
في الوقت الذي ظهرت فيه دراسة (جلينر)، كان العلماء يعلمون بالفعل أن هناك نوعين من مرض الزهايمر: نوع نادر الحدوث، وهو شكل مبكر من مرض الزهايمر يحدث لدى الأشخاص قبل سن 65، ونوع متأخر الظهور يمثل 90% من مرضى الزهايمر، وعلى الرغم من أن الأشكال المختلفة لمرض الزهايمر يمكن أن تبدي أعراضاً مختلفة، إلّا أن مستويات (بيتا اميلويد) كانت مرتفعة في كلا النوعين.
بحلول نهاية ثمانينيات القرن الماضي، كان الباحثون قد أحرزوا تقدماً في اكتشاف الأسس الوراثية التي تؤدي لحدوث الشكل المبكر من مرض الزهايمر، حيث قام أولاً (ديمتري جولدكابر)، وهو خبير في أمراض الزهايمر في جامعة ستوني بروك في نيويورك بتحديد موقع جين يسمى (APP)، يقوم بتحويل البروتين عندما ينهار بفعل الإنزيمات إلى أجزاء أصغر إلى (بيتا اميلويد)، وبعد ذلك، وفي وقت مبكر من التسعينيات، أظهر اكتشاف أن طفرة في الـ(APP) تؤدي إلى تراكم مزيد من (بيتا اميلويد)، وبحسب النظرية المتبناة حالياً في الأوساط العلمية، فإنه من المرجح أن يصاب الأشخاص الذين يرثون بعض الطفرات في (APP) بمرض الزهايمر المبكر.
في ذات الوقت تقريباً الذي تم فيه اكتشاف طفرة الـ(APP)، فاجأ فريق من الباحثين بقيادة (روزيز) في جامعة ديوك الميدان العلمي باستنتاج آخر يتعلق بجين يسمى (APOE)، وهو جين يشارك في نقل الكوليسترول في الدم، وتبعاً للفريق فإن وراثة نوع معين أو أليل من هذا الجين – يدعى (ApoE4) – يزيد من خطر تبكير ظهور مرض الزهايمر من خلال التأثير على السن الذي يطور فيه الشخص المرض، فعلى سبيل المثال، فإن الشخص الذي يمتلك نسخة واحدة من الأليل قد تظهر لديه أعراض المرض في سن أبكر مما لو لم يكن لديه نسخة من هذا الأليل على الإطلاق، والشخص الذي يمتلك نسختين قد تظهر لديه العلامات في وقت أبكر من الشخص الذي يمتلك نسخة واحدة من الأليل وهكذا…
ووفقاً للمعاهد الوطنية للصحة فإن أكثر من 25% من سكان القوقاز يحملون نسخة واحدة من (ApoE4)، واثنين في المئة منهم يحملون نسختين، ولكن على الرغم من ذلك فإن امتلاك الأليل لا يضمن أن الشخص سيصاب بمرض الزهايمر بالضرورة.
وفقاً لـ(صموئيل غاندي)، وهو مدير مشارك في مركز أبحاث (Mount Sinai) لمرض الزهايمر في مدينة نيويورك، فإن الاختلاف في عدد نسخ الـ(ApoE4) هو بلا شك -الآن وربما إلى الأبد- العامل الوراثي الأكثر فعالية وأهمية في وقت ظهور مرض الزهايمر، لكن (غاندي)، المعروف في مجال أمراض الزهايمر كخبير للـ(اميلويد) يشير أيضاً إلى أنه من بين الآثار الهامة لـ(ApoE4) هو أنه يعزيز من تراكم (البيتا اميلويد).
على الرغم أن تأثير (ApoE4) بات مقبولاً حالياً بين أوساط باحثي مرض الزهايمر، إلا أن (روزيز) عندما قام بنشر هذه النتائج التي توصل إليها في عام 1993، كان المجتمع العلمي يشكك بإمكانية تأثير جين يشارك في نقل الكولسترول على الإصابة بمرض الزهايمر، لدرجة أن بعض المجموعات البحثية تكبدت المزيد من المتاعب من أجل تكرار النتائج التي كان قد توصل إليها.
يشير (خاتشاتوريان) بأنه قام ببذل جهد من أجل إنشاء برنامج متوازن في (NIA) يدعم كلاً من وجهات النظر المختلفة مثل تلك التي يوردها (روزيز)، ولكن مع ذلك فقد حصلت فرضية (الاميلويد) على القدر الأكبر من الاهتمام، وذلك بالطبع فضلاً عن التمويل، وبذلك أصبحت المجموعة التي تقوم بمراجعة التقارير في (NIH) مقتنعة تماماً بأن البروتينات مثل (الاميلويد) و(التاو) هي جزء رئيسي من القصة، وأن أي شيء آخر يأتي مخالفاً لهذا القول هو فاقد للمصداقية، وهكذا بدأت عملية خلق العقيدة العلمية التي قضت على أي احتمالية لوجود عوامل أخرى تشارك في حدوث هذا المرض.
تبعاً لـ(روزيز) فإن التمويل الذي كان يتلقاه لمتابعة أبحاثه في جامعة ديوك توقف في عام 1997، وذلك بسبب موقفه المضاد للاميلويد، ولذلك اضطر إلى القبول بوظيفة صناعة مع (GlaxoWellcome) (والتي تعرف الآن باسم GlaxoSmithKline) لمدة عشر سنوات، وكان آنذاك يتابع بحوثه حول دور الـ(ApoE4) في مرض الزهايمر ويختبر بديله لفرضية الاميلويد، وفي عام 2007 عاد (روزيز) في نهاية المطاف إلى ديوك، وبدأ بعد عامين بالعمل على شركته الناشئة التي دعاها باسم (Zinfandel Pharmaceuticals) لنقل أبحاثه إلى تجارب أكبر مع شركاء من الصيادلة.
بعد عقود من البحث في لغز مرض الزهايمر، فسر (روزيز) بأن ما يسبب الشكل المتأخر من مرض الزهايمر يتعلق بتأثير تغيير جينات مثل الـ(ApoE4) على الميتوكوندريا – وهي المحركات التي تستخدم الأوكسجين والجلوكوز لتزويد الخلايا بالطاقة.
تعتبر الميتوكوندريا من العوامل الأساسية التي تساعد الخلايا العصبية للقيام بعملها، وهذه الخلايا تحتاج بالطبع إلى الطاقة لتتواصل مع بعضها البعض، ولكن على عكس الخلايا الأخرى في الجسم، فإن الخلايا العصبية لا يمكنها أن تتكاثر، ونتيجة لذلك، فإن ضعف الميتوكوندريا – وهو الأمر الذي يحدث عند التقدم في السن – يؤدي إلى حرمان الخلايا العصبية من الوقود الحيوي الذي تحتاجه لعملها، وهذا بدوره يؤدي لموت الخلايا العصبية المتعطشة للطاقة، وعلى اعتبار أنه لا يوجد شيء يمكن أن يحل مكان الخلايا العصبية الميتة، فإن الوظائف المعرفية في الدماغ تبدأ بالتدهور.
الجدير بالذكر أن وجود جين يسمى (TOMM40) يعتبر من الأمور الضرورية لكي تستطيع الميتوكوندريا تأدية وظيفتها بشكل طبيعي، ومن خلال ذلك في ، أفاد فريق (روزيز) عام 2009 بأن اختلاف الأطوال الناتج عن التغيير الوراثي في جين (TOMM40)، إلى جانب وجود اختلافات في جين APOE –الذي يقع على الكروموسوم ذاته-، يعيق وظيفة الميتوكوندريا في الخلايا العصبية، ومن خلال الدراسات التي أجراها فريق (روزيز) حتى الآن والتي تبين وجود اختلافات وراثية في جين (TOMM40) وجين (APOE)، فإنهم يستطيعون تحديد أولئك الذين يعانون من تدهور في وظيفة الميتوكوندريا، وبالتالي الذين يكونون أكثر تعرضاً للخطر فقدان الذاكرة ومهارات التفكيرية بسبب مرض الزهايمر قبل سن الـ80.
بناء على هذا البحث التراكمي، قام فريق (روزيز) بوضع خوارزمية يمكنها التنبؤ ما إذا كان الشخص السليم الذين يتراوح عمره ما بين 65 و 83 عاماً في خطر متزايد لتطوير تدهور معرفي بسبب الإصابة بمرض الزهايمر في غضون خمس سنوات أم لا، وتختلف العوامل المؤثرة على الخوارزمية تبعاً لسن الشخص ومعدل التغيير الذي أصاب كلاً من (APOE) و(TOMM40) لديه.
ولكن مع ذلك، فقد فشلت محاولات بعض الباحثين في تكرار البحث الذي قام به (روزيز) للعثور على رابط بين تغيير طول (TOMM40) والسن الذي يبدأ فيه الزهايمر بالظهور لدى الأشخاص، ولكن (روزيز) علل ذلك بأن هذه المجموعات لا تقوم بتأدية بحثه بشكل صحيح وأن العمل على بحثه ينطوي على أساليب تشخيصية معقدة، لأن تكرار بحث (TOMM40) ليس بالسهولة التي كان عليها تكرار بحث (ApoE4)، ولذلك فهم يقولون بأن البيانات غير صحيحة، كما ويشير (خاتشاتوريان) أيضاً إلى وجود اختلافات منهجية رئيسية بين البحث الذي قام به الباحثون لتكرار عمل (روزيز) وبين البحث الأصلي، مما أدى لظهور نتائج متباينة، حيث أنهم لم يستخدموا الأساليب التحليلية نفسها التي استخدمها (روزيز).
في الوقت الذي شكك فيه بعض العلماء باستنتاجات (روزيز)، اكتسبت نظريته شعبية أكبر، فعلى سبيل المثال، قام (راسيل سويردلو)، وهو مدير مركز جامعة كانساس لمرض الزهايمر، بنشر بحث بعنوان “مرض الزهايمر سلسلة فرضية الميتوكوندريا”، حيث اعترف فيه بأنه على الرغم من أن دور الميتوكوندريا في مرض الزهايمر المتأخر هو أمر مثير للجدل، فإن هذه النظرية تكسب المزيد من التأييد مع التراكم المستمر للأدلة.
يعمل (سويردلو) على المراحل الأولى من تكرار تجربة الـ(TOMM40) من بحث (روزيز) واستطاع حتى الآن الحصول على نتائج مماثلة في جماعة صغيرة من المرضى، كما أنه هناك مجموعات أخرى أيضاً من العلماء استطاعت أن تجد ذات الارتباط ما بين الـ(TOMM40) والسن الذي يبدأ معه مرض الزهايمر.
في الوقت ذاته، بدأت فرضية الاميلويد تفقد بعضاً من مصداقيتها، فعلى سبيل المثال، لا يزال الدور الدقيق الذي يلعبه بروتين (بيتا أميلويد) لدى الأشخاص المصابين وغير المصابين بمرض الزهايمر غير مفهوم بشكل جيد، وذلك على الرغم من تسخير عقود من البحث في هذا المجال، كما أن هناك بعض الأشخاص الذين يمتلكون بروتين الأميلويد ومع ذلك لا يعانون من ضعف في الإدراك أو مرض الزهايمر، وهو ما يعني أن وجود أو عدم وجود الأميلويد ليس كافياً لتحديد ما إذا كان شخص ما لديه هذا المرض.
يعمل الباحثون أيضاً على اختبار ما إذا كان يمكن للجرعة المنخفضة جداً من دواء يسمى (بيوجليتازوني) أن تؤخر ظهور التدهور في الذاكرة والتفكير، وإذا ما ثبت ذلك فإن هذا الدواء يمكن أن يؤخر ظهور الخرف لمدة خمس سنوات، وهذا يمكن أن يقلل من تكلفة رعاية المرضى بمقدار 50 مليار دولار بحلول عام 2020، وذلك وفقاً لتقديرات جمعية مرض الزهايمر، حيث أظهرت الدراسات التي تم إجراؤها على القوارض والإنسان بالفعل أن جرعة منخفضة من (بيوجليتازوني) يمكن أن تحسن من وظيفة الميتوكوندريا وتمكنها من القيام باستقلاب مصادر الطاقة بشكل أفضل.