بَين عامي 1972 و 1981 حقق روجر أورليش في سجلاتِ 46 مريضاً تعافوا من جراحة المرارة ، تطِل غرف البعض على جانب واحد من المستشفى مُطل على الأشجار المُتساقطة ، بينما كان المنظر الآخر لمرضى آخرون جداراً من الطوب. أراد اورليتش من خلال أبحاثه؛ المُعتقِد أن رؤيته لشجرة الصنوبر ساعدته في التعافي من أمراض الكِلى عندما كان مراهقاً، معرفة ما إذا كان أولئك الذين لديهم مناظر طبيعية قد يتمتعون بفوائِد صحيّة أكبر من أولئك الذين ليس لديهم.. وهنا سنسطحبكم في رحلةٍ ممتعة لغور بحار العلم!
تحدثت النتائج عن نفسها ، وكان لها أنبل الأثر لتأثر على جيلاً من أبحاث الطبيعة. يتمتع المرضى الذين يستمتعون بمنظرٍ طبيعي بإقاماتٍ أقصر بعد الجراحة، ولديهم تقييمات سلبية قليلة من الممرضين ، أما بخصوص الجرعات المسكنة فكان تعاطيهم لها أقل أيضاً ، والمضاعفات السلبية بعد الجراحة كانت قليلة جداً كذلك .. حتى من مسافة بعيدة ، أثرت نباتات الأرض بِعُمق!
لم تقتصر الأبحاث حول المرضى والفوائد الجزيلة التي أنعمت بها الطبيعة عليهم ،بل أصبح الأمر أكثر إتساعاً وعُمقاً ليشملنا نحن الأصحاء كذلك!
إن لحظات مفعمة بلحياة من الطبيعة: الرياح وهي تسترق بين أوراق الأشجار، بانوراما لتسلق إحدى قمم الجبال ، وغيرها العديد من اللحظات التي البعض منا لم يسبق له أن عاشها من قبل ، بإمكانها خلق روح إيجابية ، وتحفيز أدمغتنا بطرق مماثلة ، ووفقاً للباحثين العلميين في جميع أنحاء العالم ، يمكن أن توفر الطبيعة الإفتراضية فوائد نفسيّة وفسيولوجية مماثلة للشيء الحقيقي ،فعالمنا لم يشهد البعد عن الطبيعة بعد تفشي covid-19 ، فقد عانى من هذا قبله ، فالاتجاهات طويلة المدى كالحوسبة ، والتحضر قلصت وبشكلٍ كبير علاقة البشرية مع الهواء الطلق.
بعد مرور تسعة وعشرين عاماً على مستشفى أورليش اكتشف فريق صغير في قسم علم النفس بجامعة واترلو الكندية أن التعرض لغابة افتراضية قلل من التوتر ، حيث تم إنشاء لعبة الغابة المحاكية ، واعطيت فرصة للمشاركين في بيئة مساحتها 1600 متر مربع مليئة بأوراق الشجر الغنيَّة ،لم يصادفوا روائح نشارة أو بكتيريا مكروية ، وهي ظاهرة تحمل فوائد لتخفيف التوتر في العالم الحقيقي. وما لوحظ كان مدهشاً حيث انخفضت المشاعر السلبية واستمتع الجميع بالاسترخاء في الغابة المُضلعة.
وتلا ذلك تسجيل أوراق متعددة حرزت نتائج مماثلة. ففي تايوان أختبر الباحثون مشاهد الواقع الإفتراضي من غابة أواندا الوطنية المثالية ، مشيرين إلى انخفاض في الاكتئاب ، والارتباك والتعب والغضب والعداء. وفي غضون ذلك قام فريق سويسريّ بقياس تردد الجهاز التنفسي المنخفض وضغط الدم الشرياني في الأشخاص المعرضين لطبيعة الواقع الإفتراضي في إعداد وحدة العناية المركزة.
ووفقاً لأبحاث يابانية نُشرت في 2018 فإن الأشجار لديها بالفعل قوى علاجية، حيث تطلق الزيوت الأساسية المضادة للميكروبات تسمى phytoncides ، التي تحمي الأشجار من الجراثيم ولها مجموعة من الفوائد الصحيّة للإنسان . تعزز الزيوت المزاج ووظيفة الجهاز المناعي ، كما تقلل من ضغط الدم ومعدل ضربات القلب والإجهاد والقلق والارتباك ؛ كما إنها تحسن النوم والإبداع وقد تساعد في مكافحة السرطان والاكتئاب . حيث قام الدكتور تشينغ لي رئيس الجمعية اليابانية لطب الغابات [Forest Medicine] بتصنيف هذه الفوائد في كتابه Forest Bathing الصادر في أبريل 2018 .
ويقول أليكس سمالي ، رئيس مشروع الطبيعة الافتراضية ، الذي يستكشف كيف يمكن للتجارب الرقمية للعالم الطبيعي أن تؤثر على صحة الإنسان ورفاهيتَه ، أنّ هناك نظريتان قد تفسران التأثيرات الإيجابية للطبيعة الرقمية. الأول هو مفهوم البيوفيليا إدوارد أو.ويلسون [ Edward O. Wilson’s biophilia concept،] والذي نشره ويلسون في كتابه في 1984م ، و يفترض أن البشر طوَّروا على مدى ملايين السنين تفضيلات تطورية للبيئات الخصبة والوفرة لأنهم يوفرون مساحة للتعافي من الإجهاد والتعب. ثم هناك نظرية استعادة الإنتباه [ attention restoration theory ] التي طورتها راشيل وستيفن كابلان في الثمانينيات ، والتي تقترح أن جودة الطبيعة الساحرة ، والتي يمكن العناية بها دون جهد إدراكي كبير ، تسمح لنا بالتعافي والشفاء من الانشغال والاهتمام بالحياة الحديثة في كثير من الأحيان .
يقول سمالي ، في إشارة إلى نظرية استعادة الانتباه: “المشاهد الخضراء الغنية بالطبيعة تقدم فكرة السحر الناعم”. “إذا كنت جالسًا بجانب بحيرة وكان الماء ينساب ببطء ،حينها أنا لا أقوم بتحليل التموجات لكنها تسمح لعقلي بالذهاب إلى حالة استرخاء ، وهذا يسمح لشيءٍ من دماغي الذي أُجبر على التركيز للتجديد “. بشكل حاسم ، يمكننا تجربة هذه التأثيرات ليس فقط من خلال الطبيعة الشخصية ولكن عن بعد من خلال التمثيلات الرقمية والفيديو. سيشهد أي شخص جرب العشب المترفرف بلطف في The Legend of Zelda: Breath of the Wild لعام 2017 على جودته المهدئة والمنومة.
وهنا يأتي الدور للقول إن العلم أثبت وبقوة أن الطبيعة الإفتراضية تلعب دوراً هامّا في تعويض الإنسان ما يفتقده في الطبيعة نفسها خلال فترات البعد عنها كما تشهد أزمتنا الراهنة. لكن إن كان السؤال هل ستُعطينا الطبيعة الإفتراضية ما أعطتنا إياه الطبيعة ذاتهامن فوائد ومن حلول لمشكلاتٍ عديدة؟ بالطبع لا في أغلب الأحيان ، فمن ناحية تجديد الهواء والشعور العظيم الذي تمنحنا إياه الطبيعة نفسها يبدو الأمر على نحوٍ ما مختلف!
المصادر:
المصدر ١