كيف يؤثر الذكاء الاصطناعي على الصحافة؟ وما هي التداعيات الفكرية التي قد تواجه المنظومة المعرفية البشرية في حال اعتماد الأجيال الجديدة على الذكاء الاصطناعي دون بذل أي مجهود فكري، سواء في التعلّم أو سوق العمل والسعي لاكتساب المعرفة بعيدًا عن المعلومات الزائفة. وكيف يُمكن تجنّب هذه العواقب والتعامل معها؟
يشمل الذكاء الاصطناعي بحسب الأمم المتحدة طيفًا واسعًا من التقنيات التي يمكن تعريفها بأنها “أنظمة ذاتية التعلم وقابلة للتكيف”. ويمكن تصنيفه بحسب التقانات المستخدمة، أو الغايات التي يخدمها (مثل التعرف على الوجوه أو الصور)، أو الوظائف التي يؤديها (مثل فهم اللغة وحل المشكلات)، أو أنماط الوكلاء (من ضمنهم الروبوتات والسيارات ذاتية القيادة). كما يضم الذكاء الاصطناعي بحسب المنظمة طرائق وتخصصات متعددة مثل الرؤية الحاسوبية، والتعرف على الكلام، والروبوتات، ويسهم في تعزيز القدرات البشرية التقليدية. وقد أُحرز التقدم الأخير في هذا المجال بفضل التطورات التي شهدتها قدرات المعالجة الحاسوبية وأساليب إدارة البيانات.
ولكن استخدامات الذكاء الاصطناعي غير المسؤولة، قد تؤدي إلى تبعات خطيرة تؤثر سلبًا على الأفراد والمجتمعات. وهنا يأتي دور الصحفيين في متابعة هذه التداعيات ورصدها، من خلال إعداد تقارير صحفية تكشف فيها الجهات التي تستخدم هذه التقنية بطريقة سلبية، وطرحها أمام الرأي العام، وتوعية الجمهور بذلك. وتُعد هذه المهمة من أبرز مسؤوليات الصحافة في العصر الرقمي، لا سيّما وأن منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة قد حذرت مؤخرًا من مخاطر الذكاء الاصطناعي، مُشيرة إلى أنه يمكن “استخدامه لنشر معلومات كاذبة أو مضللة، وزيادة خطاب الكراهية على الإنترنت، ودعم أنواع جديدة من الرقابة. وتستخدم بعض الجهات الفاعلة الذكاء الاصطناعي للمراقبة الجماعية للصحفيين والمواطنين، مما يخلق تأثيرًا مخيفًا على حرية التعبير”.
في هذا السياق، يرى الدكتور مارك أوين جونز، أستاذ مساعد مقيم في التحليل الإعلامي بجامعة نورثويسترن في قطر، إحدى الجامعات العالمية الشريكة لمؤسسة قطر، أننا في المرحلة الأولى من تأثير ما أسماه بـ “القوة المعرفة العمياء، حيث يهدد الذكاء الاصطناعي بإغراق المنظومة المعرفية الرقمية بمعلومات مُضللة”.

أضاف: “إنّ الحجم الهائل وسرعة إنتاج المحتوى عبر تقنيات الذكاء الاصطناعي يهددان المعرفة البشرية لصالح المعرفة الآلية، التي لا تهدف بالضرورة إلى تعزيز الوعي، بل إلى استغلال خوارزميات المنصات الرقمية لأهداف أخرى، ما يُسبب نوع من الضجيج في مجال المعلومات. وهذا يؤثر على المنظومة الفكرية، ويُضعف مع مرور الوقت قدرة الرأي العام على التمييز بين الصحافة الموثوقة والمحتوى الرديء المصمم لجذب الجمهور وتوجيهه”.
أشار الدكتور مارك أوين جونز إلى أنّ:” الذكاء الاصطناعي قد يُقوّض البنية المعرفية الضرورية لتعزيز التفكير النقدي، الذاكرة البشرية، والنقاش المنطقي. ورغم أن التداعيات الفكرية على المدى الطويل ليست حتمية، لكن هذا المسار يدعو إلى القلق من تحوّل عميق”.
في المقابل، يؤكد الدكتور مارك أوين جونز، أنّ الذكاء الاصطناعي يقدّم فرصًا حقيقية، منها تحليل كميات هائلة من البيانات، وتجاوز حواجز اللغة، مشيرًا إلى أن الصحفيين من الهند إلى أمريكا اللاتينية يستخدمون النماذج اللغوية للتحقيق في ملفات الفساد، وتتبع الجريمة المنظمة، وكشف التحيز الخوارزمي، مؤكدًا أنّه على الصحفيين الخروج من موقع المستخدم السلبي للتكنولوجيا والتحوّل إلى لاعبين فاعلين، وهذا ما يتطلب دعم الصحافة المستقلة، وسنّ تشريعات مناسبة تتعلق بالذكاء الاصطناعي، وتبنّي ثقافة التمكّن من الذكاء الاصطناعي في غرف الأخبار، مع تعزيز دور العنصر البشري، والتحلّي بالمسؤولية الأخلاقية”.
بدورها، تروي حصة آل ثاني، خريجة جامعة نورثويسترن في قطر، تأثير الذكاء الاصطناعي في نشر معلومات مضللة، قائلة:” شاهدتُ فيديو مزيّف لشخصية سياسية بدا حقيقيًا جدًا، ولم أدرك أنه مزيّف إلا لاحقًا. في هذا العصر، المحتوى الذي تم توليده بالذكاء الاصطناعي موجود في كل مكان، ومن السهل جدًا الوقوع في فخه. هذا هو الهدف الأساسي من ذلك، محاكاة البشر وطمس الحدود بين الحقيقي والزائف”.
أضافت:” أعتقد أنّ الثقافة الإعلامية وتدقيق الحقائق أمران أساسيان لمكافحة التضليل والمعلومات المضللة، ولمعرفة الفرق بين المحتوى الحقيقي والمحتوى الزائف. وهذا لا ينطبق على الصحفيين فقط؛ بل يجب على الجميع إعادة تقييم طريقة استهلاك المعلومة، والتحقق من مصدر المعلومة، وبناء الوعي الإعلامي”.
رغم ذلك، أشارت حصة إلى الإمكانات الإبداعية التي يحملها الذكاء الاصطناعي في مجال الصحافة، من حيث جمع المعلومات، وصياغة الأسئلة ورسائل البريد الإلكتروني، وتحرير النصوص، وغيرها. وقالت:” قوتنا الرئيسية كصحفيين تكمن في قدرتنا على سرد القصص، وعندما تمنح هذه القدرة للآلة، تصبح القصص خاوية وأحيانًا غير أخلاقية، ومتحيزة مع تطوير هذه التكنولوجيا في الغرب”.
ختمت حصة: “لم يسيطر الذكاء الاصطناعي بالكامل على وسائل نقل الأخبار، لكنه حاضر بشكل كبير خلف الكواليس في العملية الصحفية، وهذا يدفعني للتساؤل عن شكل الصحافة في المستقبل القريب، خصوصًا عندما يتعلق الأمر بالحفاظ على جوهر هذه المهنة. وأعتقد أن دور الصحفيين سيتحول في المستقبل إلى التوجه الإنساني، ورصد الجوانب الأخلاقية، والحضور الميداني الذي لا يمكن للذكاء الاصطناعي أن يوفره. لكن بالتأكيد، لا بُدّ أن يكون الصحفيون أكثر وعيًا بكيفية استخدامهم للذكاء الاصطناعي، وأن يستفيدوا منه كأداة دون أن يسمحوا له بأن يطغى على صوتهم، أو وجهة نظرهم، أو مسؤوليتهم تجاه كشف الحقيقة”.