بعد جائحة كورونا ازدحمت المواقع الإخبارية بكم كبير من المعلومات الطبية والمناعية، ظلت تتكرر هذه المعلومات إجباريا على مسامع الجميع، حتى أنك تسمع الآن من فتية يافعين أن الأجسام المضادة في الجسم هي أهم ما يمكن تواجده لحمايتنا من فيروسات كثيرة أهمها كوفيد-19 المنتمي لعائلة الفيروسات التاجية كورونا. لكنك بالتأكيد ستتفاجأ عند الغوص عميقا بتشابكات الخلايا المناعية التي تتعاضد لمساعدة الخلايا البائية في عملها بإنتاج الأجسام المضادة.
كنت أريد أن أتكلم في هذا المقال عن بحثنا النظري المنشور حديثا في دورية علمية جديدة نسبيا بأبحاث ذات جودة عالية تتبع ناشر الدوريات العلمية المشهورة سبرينجر نيتشر، لكن ارتأيت أن أتمهل قليلا، أرجع بضع خطوات للوراء، وأطرح القصة من منظور مختلف.
لنتعرف أولا على ما يسمى المناعة المكتسبة، وهي أن نموّك وتعرّضك لكثير من الكائنات الغريبة، الكثير من الطعام، الميكروبات، الأدوية، والمركبات الكيماوية يستوجب من مناعتك أن تصنف ما هو صديق وما هو عدو. قدرة جسدك في التعرف على ما يؤذيك، وعمل استجابة مناعية لرفضه يسمى المناعة المكتسبة. هذه العملية تبدأ فور ولادتك، وتبقى مستمرة حتى الشيخوخة حين يضعف جهاز المناعة وتهرم هذه الخلايا المناعية. وإذا عدنا للفيروس المسبب لكوفيد-19 كمثال، فإن تعرّف جسمك على هذا الفيروس سواء عن طريق الإصابة أو عن طريق أخذك للمطعوم هو المحفز والمحرك الأساسي للحصول على هذه المناعة المكتسبة. وبينما يلخص كثيرون المناعة المكتسبة بالأجسام المضادة في الدم، فإن الواقع الفعلي أعقد بكثير، ولنقل أن الأجسام المضادة أحد تعبيراتها لكنها ليست كل شيء.
اللاعبون الكبار في المناعة المكتسبة ثلاثة أنواع من الخلايا تعمل جنباً إلى جنب، الخلايا الأولى تسمى خلايا تقديم المستضد، وهي خلايا بالعة لأي شيء، غالبا بقايا بروتينية من فيروسات، بكتيريا، طفيليات، وحتى بروتينات من الطعام الذي نأكل. مهمة هذه الخلايا تقطيع البروتينات وإبرازها على سطحها الخارجي وتقديمها للخلايا التائية، مهندس المناعة المكتسبة وأهم أركانها. تتقابل خلايا تقديم المستضد وتتصافح مع ملايين الخلايا المناعية الراشحة من حركة الدم التي لا تتوقف في أماكن متخصصة تسمى العقد اللمفاوية. هناك ستجد نوعين من الخلايا اللمفاوية هما الخلايا البائية والخلايا التائية. تقوم الخلايا البائية بمهمة واحدة غالبا هي إنتاج الأجسام المضادة، وقد تقوم أيضا بعمل خلايا تقديم المستضد آنفة الذكر، بينما تقوم الخلايا التائية بتقرير من هي البروتينات الصديقة ومن هي البروتينات العدوة أو الغريبة، وهذه المهمة صعبة ومعقدة للغاية وأي خلل فيها يؤدي إلى أمراض مناعية تحيل الحياة إلى عذاب، مثال ذلك مرض سيلياك، حيث تقرر الخلايا التائية أن بروتين غلوتين الموجود في الحبوب كالقمح والشعير هو بروتين غريب، حينها سيتعامل جهاز المناعة مع أي طعام يحتوي الغلوتين على أنه عدو، وسيؤدي إلى تفاعلات في الأمعاء تؤدي إلى رفضه والتخلص منه، ومن عوارضه الإسهال، تدمير بطانة الأمعاء، أوجاع البطن، وفقدان الوزن.
إذن لنركز هنا على الخلايا التائية، بطل قصتنا. تم اكتشاف هذه الخلايا سنة 1961 على يد العالم والطبيب جاك ميلر Jacues Miller الأسترالي من أصول فرنسية. ولاحقا تم اكتشاف أن تلك الخلايا هي الركيزة الأساسية لمساعدة الخلايا البائية على إنتاج الأجسام المضادة. تصنف الخلايا التائية حسب المستقبلات المنتشرة على سطحها إلى نوع رئيس يسمى ألفا-بيتا وآخر أقل شيوعا يسمى غاما-دلتا. تقسم خلايا ألفا-بيتا التائية إلى قسمين: خلايا تائية مساعدة وأخرى قاتلة. تنحصر مهمة الخلايا التائية المساعدة بتحديد نوعية الاستجابة المناعية حيث تعيد برمجة نشاط مجموعة كبيرة من الجينات تدعم إفراز السيتوكينات وهي بروتينات أخرى تنظم عمل الجهاز المناعي كما أنها تساعد الخلايا البائية على إفراز الأجسام المضادة بل وتحدد نوعها أيضا، وهناك نوع من الخلايا التائية المساعدة يقوم بتثبيط الاستجابات المناعية حين التعرف على بروتينات صديقة، في حين أن الخلايا التائية القاتلة ترتبط على الخلايا السرطانية أو الخلايا المصابة بالفيروسات وتقوم مباشرة بقتلها.
كيف تتعرف الخلايا التائية على المكونات الميكروبية أو البروتينات الغريبة التي تدخل الجسم؟
يتم ذلك عن طريق مستقبلات الخلايا التائية TCR (والكلام هنا عن الخلايا التائية من نوع ألفا-بيتا) وهي بروز صغير على سطح الخلايا التائية يتكون من 8 بروتينات مغمورة في الغشاء البلازمي للخلية يرتفع 7.5 نانوميتر عن سطح الخلية (النانوميتر الواحد يساوي 1 على بليون جزء من المتر أو 1 على مليون جزء من المليميتر) هذا إذا عرفت أن قطر الخلايا التائية لا يتجاوز 5 ميكروميتر (المايكروميتر الواحد يساوي 1 على مليون جزء من المتر أو 1 على ألف جزء من الملميتر). لنتخيل هنا أيضا خلايا تقديم المستضد حيث إنها أكبر من الخلايا التائية ب 2 – 3 مرات وتقدم البروتين الغريب على سطحها عن طريق مركب بروتيني معقد MHC يرتفع أيضا 7.5 نانوميتر. بمعنى آخر، حدوث ربط بين الخليتين التائية وخلية تقديم المستضد تتخلله مسافة من الفراغ مقدارها 15 نانوميتر ناتجة عن ربط البروتينين MHC-TCR.
الأمر إذا بهذه السهولة؟ قطعا لا. فالخلايا التائية محملة على سطحها الخارجي بملايين البروتينات مختلفة الأشكال والأحجام وبوظائف مختلفة أحدها بروتين كبير يسمى CD45 يرتفع عن سطح الخلية التائية من 40-55 نانوميتر. أي أنه أطول من مستقبلات الخلايا التائية بحوالي 7 مرات. لك أن تتخيل الآن الخلية التائية ككرة مغطاة بالفرو (بروتين (CD45 يتخلله مستقبلات خلايا تائية اقصر من هذا الفرو بكثير.
تتدحرج الخلايا التائية في العقد اللمفاوية وهناك تقابل خلايا تقديم المستضد. هنا يجب أن تعلم أن الخلايا التائية البدائية (التي لم يسبق لها أي تحفيز) لا تشبه بعضها البعض، حيث إن كل خلية تائية تحمل على سطحها حوالي 300000 مستقبل TCR متطابق ولكنها لا تشبه أي خلية تائية أخرى حيث تحمل مستقبلات TCR مختلفة. هذا يعطي الخلايا التائية أفضلية لكي تتقابل مع البروتينات الغريبة المحمولة على بروتينات MHC على سطح خلايا تقديم المستضد. وحيث إنها تبدو لوهلة كأنك تبحث عن إبرة في كومة قش، هي في الحقيقة كذلك، ولكن الحركة السريعة للخلايا مع مجرى الدم وتزاحمها في العقد اللمفاوية تجعل ذلك ممكنا بل وسريعا أيضا.
في اللحظة التي تتقابل فيها الخلية التائية مع خلية متطابقة تمام يحدث ربط بين MHC و TCR . هذا الجسر بين الخليتين يمتد فقط ل 15 نانوميتر، وبثوان قليلة يبدأ تفاعل فسفرة للجزء الداخلي من مستقبلات الخلايا التائية (أي إضافة مجموعة فوسفات من إنزيمات تسمى كاينيزات) تحت غشاء الخلية التائية، يتبعه بأقل من دقيقة إخراج محتوى كبير من الكالسيوم في داخل السيتوبلازم يدفع ببروتينات أخرى لتدخل النواة وتقوم بإعادة برمجة التعبير الجيني حيث تبدأ جينات جديدة بالعمل وتتوقف أخرى. في ساعات قليلة تتبرمج الخلية التائية لأداء وظيفتها، وبعد أقل من 24 ساعة تبدأ هذه الخلايا بالانقسام والتكاثر والانتشار السريع في الجسم لمحاربة كل بروتين يشبه ما تم التعرف عليه من خلية تقديم المستضد وذلك للقضاء على كل من يحملها من بكتيريا أو فيروس أو غيرها، ومساعدة الخلايا البائية لإنتاج أجسام مضادة ترتبط فقط على هذه البروتينات الغريبة مما يساعد على إزالتها من الجسم.
اعتقد أننا مشينا سريعا في هذا الجزء وعلينا مراجعته مجددا، وذلك لأن سؤالا كبيرا ما زال يحير العلماء. ما هو ذلك الحدث الذي يتم عند ربط البروتين الغريب المقدم على سطح خلية تقديم المستضد مع مستقبلات الخلايا التائية والذي يؤدي لكل تلك التغييرات والبرمجة في داخل الخلايا التائية؟
بمعنى آخر.. كان السؤال وما يزال.. ما هي آلية تحفيز مستقبلات خلايا التائية TCR؟
حتى وقت قريب لم تكن هناك معرفة كيف يتم ذلك. أقصد حتى مع حدوث ذلك التوافق، ما هو الشيء الحقيقي الفعلي الذي يدفع الخلايا التائية بعد تمييزها لبروتين واحد واضح محدد من القيام بعملها وتمايزها لوظيفة محددة. تخيل معي مجددا، الخلية التائية ككرة من الفرو مغطاة ببروتين CD45 الطويل وغيره يتخلله مستقبلات الخلايا التائية TCR الأقصر والأصغر حجما.
من النظريات التي لاقت قبولا واسعا نموذج الفصل الحركي لبروتين CD45 التي اقترحها العالمان فيليب فان دي مير Philip van der Merwe ومايك ديفيس Mike Davis في تسعينات القرن الماضي. وتقوم الفكرة على أن اقتراب خلايا تقديم المستجد من الخلايا التائية يتبعه بالضرورة إزاحة CD45 وهو بالمناسبة من البروتينات المثبطة لتفاعل الفسفرة. بمعنى آخر، لكي تقترب الخليتان سويا لا بد من نقطة التقاء تخلو من هذا البروتين الكبير حيث يقدم النموذج مقترح مفاده أن الاقتراب يدفع بهذا البروتين للابتعاد. هذا الابتعاد يخلق نوعا من انعدام التوازن بين عدد الإنزيمات المحفزة لعملية الفسفرة مقارنة بتلك التي تثبطها مما يؤدي في النهاية لتحفيز مستقبلات الخلايا التائية. تذكر الآن أن الربط الذي يحصل بين الخليتين يترك فراغ مقداره 15 نانوميتر حيث لا يوجد مكان لهذا البروتين الكبير. هذا النموذج يبدو مذهلا لأنه ببساطة يمكن مشاهدة بروتين CD45 الكبير يبتعد عند حدوث الربط بين الخليتين التائية وخلية تقديم المستضد تحت المجاهر فائقة التكبير. كذلك أظهرت كثير من الدراسات بأنك لو استخدمت الهندسة الجينية لتصنيع بروتين MHC المقدم للمستضد أطول قليلا من 7.5 نانوميتر، أي أنك تزيد من مقدار المسافة البينية الباقية بعد ربط مستقبلات الخلايا التائية TCR وبروتينات خلية تقديم المستضد MHC لطول يماثل طول CD45 (أطول من 15 نانوميتر) فان ابتعاد هذا البروتين يتوقف وتحفيز الخلايا التائية يفشل، كذلك هو الحال عند استخدام نسخة أقصر من CD45 حيث تبدو الخلايا التائية ككرة فرو حلقت حديثا وعندها يحدث التقارب بين الخليتين دون عناء.
كنا سنسلم لهذا النموذج لولا انتشار دراستين علميتين سنة 2009 و2010. الدراسة الأولى نشرت من باحثين في مختبرات مستشفى سانت جود البحثي للأطفال ومختبرات المعهد الوطني للصحة (أمريكا)، والثانية من معهد العلوم الطبية الحيوية في أكاديميا سينيكا (تايوان) وتحديدا من المختبر الذي كنت أعمل فيه. ومفاد البحثين أن مستقبلات الخلايا التائية TCR يمكن أن تتحفز بطريقة ميكانيكية. أي أن مستقبلات الخلايا التائية TCR هي مستقبلات ميكانيكية. هذا الاكتشاف فتح مجالا لكثير من التجارب في العشر سنوات اللاحقة للوصول لفهم أفضل لآلية عمل هذه المستقبلات. حيث بينت التجارب أن سحب أو تحريك مستقبلات TCR بقوى متناهية الصغر تتناسب مع حجم الخلايا التائية يؤدي لتحفيزها، بل وان البروتينات المسؤولة عن الحركة الميكانيكية لغشاء الخلية التائية والمسؤول عن الاستجابات الميكانيكية مكون ضروري لينجح أي تحفيز للخلايا التائية. ورغم أن الكثير من الأبحاث العلمية انتشرت في السنوات الأخيرة لتدعم فكرة أن مستقبلات الخلايا التائية TCR هي مستقبلات ميكانيكية، لم يستطع أحد من الجزم بمصدر ومقدار هذه القوى الميكانيكية.
في هذا الصدد، قمت وزملائي سنة 2017 بنشر بحث يناقض في نتائجه نموذج الفصل الحركي لبروتين CD45. حيث إن إطالة بروتينات محفزة للخلايا التائية وبقوة ربط عالية لم يعطل عملية التحفيز، بل إن التحفيز تم تعطيله فقط بإنتاج نسخ ليست أقصر بل أقل قوة على الربط ببروتين TCR. كذلك قمت بتعطيل ابتعاد بروتين CD45 عن مستقبلات الخلايا التائية وباستخدام تقنية خاصة في المجاهر فائقة الدقة تسمى مجموع الانعكاس الداخلي المتوهج TIRF لتصوير حركة بروتين CD45 وجدت أن عدم ابتعاده عن مستقبلات الخلايا التائية لم يكن سببا في تعطيل تحفيز الخلايا التائية في بحث تم نشره سنة 2018.
كل ما سبق كان يدفعنا لتخيل أن العملية الميكانيكية اعقد من حركة بسيطة لابتعاد أو إعادة توزيع البروتينات على سطح الخلايا التائية، وإنما يلزم وجود قوى حقيقية محسوبة لفعلها. وهنا بدأت تتكشف كثير من الأبحاث دعتنا لوضع نموذج جديد لآلية تحفيز مستقبلات الخلايا التائية. كان الطرح مفاده أن بروتين CD45 يدفع بعدم اقتراب خلية تقديم المستضد من الخلية التائية. ذلك الاقتراب لا يمكن أن يحدث دون بذل قوة محددة. هذه القوة وإن كانت تزيح CD45 عن المنطقة المحيطة بمستقبلات الخلايا التائية TCR، هو أيضا يدفع بانحناء في غشاء الخلية التائية لتسهيل عملية وصول MHC محملا بالبروتين الغريب من TCR. هذا الاقتراب يحدث لمدة زمنية قصيرة جدا حيث تتعرف الخلية التائية على البروتين الغريب المقدم على MHC أو تنتقل لخلية تقديم مستضد أخرى. تلك اللحظة الفارقة عند حدوث الربط لا يحدث دون حدوث انحناء في غشاء الخلية، وهذا جزء مهم من التحفيز الميكانيكي الذي تكلمنا عنه.
قمنا على إثر ذلك بمراجعة جل ما نشر من أبحاث في هذا المجال وإن كانت تشير بطريقة أو بأخرى لحدوث انحناء في غشاء الخلية التائية، وهذا ما تم إثباته بل وقياسه أيضا. إذن المصدر الرئيس لحدوث هذا الانبعاج هو طبوغرافية سطح الخلايا التائية التي لا تسمح للربط دون حدوث أذلك الانحناء. الجزء الثاني هو أن أغشية كثير من الخلايا ومن ضمنها الخلايا التائية في حركة مستمرة من الانحناءات كبالون مجعد مليء بالماء. هذا يسهل عملية الاقتراب من خلايا تقديم المستضد من جهة بل ويدفع في حدوث الانحناءات المطلوبة في منطقة الربط بمستقبلاتها.
ما الذي تعنيه تلك الانحناءات؟ أثبتت الدراسات العلمية أن الانحناءات تغير من مواقع البروتينات في سطح الخلية ومقدار تواجدها في موقع يسمح لها بعمليات الفسفرة. كذلك أظهرت الدراسات أن البروتينات في مواقع الانحناء تعاني من الازدحام الذي يدفع بخروجها من داخل غشاء الخلية. وربما هذا ما يسهل تعرضها لعمليات الفسفرة وبدء تحفيز مستقبلات الخلايا التائية.
يبدو الموضوع مثيرا جدا، في أواخر سنة 2017 جلست مع مشرفي في ذلك الوقت في أكاديميا سينيكا (تايوان) دكتور ستيف روفلر Steve Roffler بروفيسور المناعة وهندسة الأجسام المضادة والبروتينات، وبدانا بوضع حجر الأساس للنظرية الجديدة، قمت بعدها بمراجعة الكثير جدا من الأبحاث والمشاهدات لمعرفة إذا كانت تتسق مع طرحنا الجديد، وقمت فعلا بكتابة النسخة الأولى وتسليمها له في شهر نوفمبر 2017 تبعها كثير جدا من التعديلات حتى أغسطس 2018. في السنتين اللاحقتين عقدنا الكثير والكثير جدا من المراجعات والتعديلات حيث تربو التعديلات عن النسخة الأولى أكثر من 20
وكان دافعنا مراجعة ما ينشر حديثا ومدى اتساقه مع طرحنا الأساسي.
أحد أهم الاكتشافات في تلك السنوات أن أحد البروتينات المسؤولة عن انحناء الغشاء الخلوي مكون مهم في تحفيز الخلايا التائية، وان الأبحاث العلمية أظهرت أن الخلايا التائية الفاقدة لهذا البروتين تفقد قدرتها على التحفيز. كذلك تم اكتشاف أن الخلايا التائية الهرمة تعاني من تراكم للكوليسترول في غشائها الخلوي مما يجعلها أكثر صلابة وأكثر مقاومة للانحناء، هذه الخلايا أيضا فقدت قدرتها على الاستجابة، وغير ذلك الكثير.
تم الانتهاء من الكتابة في إبريل 2020 وتواصلنا مع أحد أشهر العلماء المتخصصين بآلية تحفيز مستقبلات الخلايا التائية د. مايكل دستن Michael Dustin بروفيسور المناعة في جامعة أوكسفورد للمراجعة وإبداء الراي. تبعها تعاون وثيق لنقل البحث لمستوى أكثر تخصصية وزخما. والحقيقة أن د. دستن استخدم كل براعته وخبراته المتراكمة لإنضاج الفكرة لمستوى أعلى.
وبعد عام آخر حفل بكثير من المراجعات كان بين يدينا نظرية جديدة كليا لتحفيز مستقبلات الخلايا التائية TCR أسميناها نموذج الانحناء الميكانيكي TCR bending mechanosignal model. قمنا بعدها بتقليص العدد الكبير من المراجع والصفحات وعدد الكلمات ليتناسب مع مجلة بيولوجي كومينيكيشنز وهي مجلة وليدة جديدة وأكثر تخصصا لدوريات نيتشر سبرنغر المشهورة، كما قمنا بتقليص الرسومات التوضيحية إلى 8 فقط.
تم تقديم النظرية لمراجعة المحكمين في شهر يوليو 2021. كانت العملية مضنية ومتعبة وطويلة وتخللها تعديلات أخرى بناء على توصيات المحررين والمحكمين لتخرج بصورتها النهائية وتنشر في شهر كانون الثاني 2022.
ودعوني أخبركم هنا عن مجمل ما جاء في البحث:
أولا: في البحث مراجعة لطبوغرافية الخلايا التائية وأطوال البروتينات ودورها بالمجمل بعملية التحفيز.
ثانيا: تم تحديد مصدر ومقدار القوى اللازمة لإحداث تغييرات ميكانيكية سواء في مستقبلات الخلايا التائية TCR أو في الغشاء الخلوي المحيط حولها.
ثالثا: في البحث تصور كيف أن كل الأبحاث العلمية السابقة ونتائجها تتسق مع هذا التفسير وإن كانت تتسق جزئيا مع نظرية الفصل الحركي لبروتين CD45.
رابعا: في البحث نظرة عميقة كيف أن المسافة بين الخلية المقدمة للمستضد والخلية التائية محسوبة بدقة متناهية وكيف أن التحفيز يتم بأحسن صوره عندما لا تزيد ولا تقل هذه المسافة عن 15 نانوميتر. ولذلك تطبيقات سأتحدث عنها بالجزء الأخير.
خامسا: في البحث تفسير ميكانيكي لما يحدث عند انحناء غشاء الخلية التائية وكيف أن مقدار قوى الانحناء ومدة الربط بين الخليتين مهمان جدا في تمييز البروتينات الصديقة من تلك الغريبة. حيث إن الربط مع بروتين معين محمول على MHC يقاوم الضغط على غشاء الخلية فترة زمنية كافية للتحفيز بينما الربط مع MHC محملا ببروتين آخر على سطح خلية تقديم المستضد يفشل سريعا بسبب تلك القوى الميكانيكية.
ماذا نستفيد من هذا النموذج؟
هذا النموذج هو محاولة للفهم وتحقيق انسجام مع مئات الأبحاث التي تم نشرها في السابق. حيث عجزت كل التفسيرات عن الإتيان بتفسير متسق مع جميع ما تم اكتشافه، ونعتقد أن هذا التفسير في هذه النظرية هو الأكثر اتساقا. من شأن هذا النموذج أن يساعد في تعديل تصميمات بعض الخلايا أو البروتينات المبرمجة لقتل الخلايا السرطانية مثلا. من ذلك استخدام تقنية BiTE وهي بروتين ثنائي مهندس جينيا بحيث يحمل في أحد أوجهه جسما مضادا قادرا على ربط وتحفيز مستقبلات الخلايا التائية ومن الجهة الأخرى جسما مضادا قادرا على الربط على نوع معين من الخلايا السرطانية. والفكرة هنا تكمن في تعديل المسافات على المسطرة البيولوجية للخلايا التائية بحيث لا يزيد ولا يقل عن 15 نانوميتر. وفي كثير من الأبحاث يبدو أن موقع البروتين المميز على سطح الخلية السرطانية يلعب دورا مهما، حيث أن BiTEs التي تميز قمة بروتينات كبيرة الحجم على سطح الخلية السرطانية ينبغي أن يكون قصيرا للإبقاء على تلك المسافة في حدود 15 نانوميتر، ذلك التقارب بين الخلية التائية والخلية السرطانية كاف لتحفيز الأولى وقتل الثانية. كذلك فان تمييز بروتينات خفية قريبة من غشاء الخلية السرطانية يستدعي إنتاج BiTEs أطول بقليل. يشمل ذلك أيضا الخلايا التائية المبرمجة لقتل الخلايا السرطانية وحيث إن أبعاد مستقبلات الخلايا التائية مهم جدا في إحداث فرق حقيقي في تحفيز الخلية التائية وقتل الخلايا السرطانية.
وأخيرا ينظر البحث بعين الاعتبار لخصائص غشاء الخلية التائية وكيف أن صلابته في حالة الهرم تعطل ذلك الانحناء الميكانيكي ويؤدي لتوقف الخلايا التائية عن عملها. كما يندرج تحت ذلك كثير من الأدوية التي تغير خصائص أغشية الخلايا التائية وربما تؤدي حرفيا لعطل ميكانيكي في آلية تحفيزها، مما يفتح بابا لكثير من التساؤلات حول التداخلات الدوائية ودورها في تنظيم عمل جهاز المناعة.
أخيرا، هذه ليست النهاية والباب ما زال مفتوحا لتفسيرات أخرى وما زال هناك كثير من التجارب التي يجب أن تعمل لاختبار مكونات هذه النظرية، وقد توافق أو تناقض النتائج المخبرية المستقبلية ما اجتهدنا في تفسيره، ننحاز بعدها للنتائج العلمية ونبني لبنة جديدة باتجاه فهم أفضل.
المراجع
- 1. Miller, J.F. Events that led to the discovery of T-cell development and function–a personal recollection. Tissue Antigens 63, 509-517 (2004).
- Chakraborty, S. et al. How cholesterol stiffens unsaturated lipid membranes. Proc Natl Acad Sci U S A 117, 21896-21905 (2020).
- 3. McMahon, H.T. & Gallop, J.L. Membrane curvature and mechanisms of dynamic cell membrane remodelling. Nature 438, 590-596 (2005).
- 4. Schmid, E.M. et al. Size-dependent protein segregation at membrane interfaces. Nat Phys 12, 704-711 (2016).
- 5. Al-Aghbar, M.A., Chu, Y.S., Chen, B.M. & Roffler, S.R. High-Affinity Ligands Can Trigger T Cell Receptor Signaling Without CD45 Segregation. Front Immunol 9, 713 (2018).
- 6. Kim, S.T. et al. The αβ T cell receptor is an anisotropic mechanosensor. Journal of Biological Chemistry 284, 31028-31037 (2009).
- 7. Liu, C.S.C. et al. Cutting Edge: Piezo1 Mechanosensors Optimize Human T Cell Activation. J Immunol 200, 1255-1260 (2018).
- 8. Chen, B.M. et al. The Affinity of Elongated Membrane-Tethered Ligands Determines Potency of T Cell Receptor Triggering. Frontiers in Immunology 8 (2017).
- 9. Davis, S.J. & van der Merwe, P.A. The kinetic-segregation model: TCR triggering and beyond. Nat Immunol 7, 803-809 (2006).
- 10. Li, Y.C. et al. Cutting Edge: mechanical forces acting on T cells immobilized via the TCR complex can trigger TCR signaling. J Immunol 184, 5959-5963 (2010).
- 11. Al-Aghbar, M.A., Jainarayanan, A.K., Dustin, M.L. & Roffler, S.R. The interplay between membrane topology and mechanical forces in regulating T cell receptor activity. Commun Biol 5, 40 (2022).