يمكننا أن نقضي ساعات ونحن نحاول اختيار لون الطلاء المناسب لغرفة ما لإضفاء الجو المناسب الذي نريده عليها، نقلّب بين أشرطة الألوان ونجلب معنا العينات الاختبارية للمنزل، فكل لون نختاره يعطي دلالة ويخدم هدفاً مختلفاً، فمثلاً عادة ما تكون عيادات الأطباء مطلية باللون الأبيض لتعطينا الشعور بنظافة العيادة، وكذلك فإننا نلاحظ أن جدران محلات الوجبات السريعة عادة ما تكون مطلية بالأحمر أو الأصفر، كما يتم طلي بعض الغرف السجن باللون الوردي على أمل الحد من العدوانية.
يعتقد معظم الأشخاص أن اللون يمكن أن يؤثر علينا، فالفكرة التي تقول بأن اللون الأحمر يمتلك القدرة على بث الحيوية والنشاط فينا في حين يعمل الأزرق على تهدئتنا باستمرار أصبحت متعمقة بجذور ثقافتنا، لدرجة أن الكثيرين يعتبرون أن هذه هي الحقيقة، ولكن هل تمتلك الألوان حقاً القدرة على تغيير سلوكنا بالطريقة التي نفترضها؟ عندما يتعلق الأمر بالبحث العلمي، فإن النتائج قد تختلط وأحياناً قد تصبح محيّرة.
يعتبر اللون الأحمر من أكثر الألوان التي تتم دراستها وفي معظم الأحيان يتم مقارنته إما مع اللون الأزرق أو الأخضر، وعلى الرغم من أن بعض الدراسات وجدت بأن الأشخاص يقومون بأداء المهام الإدراكية على نحو أفضل عندما يكونون محاطين باللون الأحمر بدلاً من الأزرق أو الأخضر، إلّا أن بعضها الآخر وجدت عكس ذلك، وهذا يشير إلى أن الآلية الأكثر تأثيراً في هذا المجال هي آلية التكيّف، وهذا يعني أنه إذا ما مررت بتجربة معينة مراراً وتكراراً وكانت هذه التجربة مترافقة مع لون معين، فإنك في نهاية المطاف ستبدأ بربط هذا اللون مع الطريقة التي كنت تشعر وتتصرف بها أثناء تلك التجربة، فمثلاً ارتباط اللون الأحمر مع الإشارة للخطأ قد يكون راجع إلى الرؤية المستمرة للدوائر والعلامات الحمراء التي دائماً ما يضعها الأساتذة على أوراق الفحوصات مكان الإجابة الخاطئة، كما أن ارتباطه بالخطر قد يكون راجعاً إلى حقيقة أن الفواكه السامة غالباً ما تكون ذات لون أحمر، أما الأزرق فهو أكثر ارتباطاً بالحالات الأكثر هدوءاً مثل التحديق في البحر أو التأمل في فسحة زرقاء كبيرة من السماء.
بالطبع، دائماً ما يكون هناك بعض الاستثناءات، فالأساتذة يستخدمون اللون الأحمر أيضاً لكتابة عبارة “جيد جداً” على ورقة الامتحان إذا ما كانت الإجابات فيها صحيحة تماماً، كما أن التوت والكرز يمتلكان اللون الأحمر ولكنهما صالحين تماماً للأكل.
على الرغم من أن هناك الكثير من الأشخاص الذين يقومون بالربط بين مختلف الأشياء ومختلف الألوان، إلّا أن ترجمة هذا الارتباط بالتصرف بطريقة معينة أو بالنجاح في أداء مهمة معينة يجعل الأمر مختلف تماماً.
إثر الكثير من النتائج المتباينة التي ظهرت في الماضي، حاولت دراسة قام بها باحثون في جامعة كولومبيا البريطانية في عام 2009 توضيح الموقف مرة أخرى وأخيرة، حيث قام الباحثون خلال الدراسة بوضع المشاركين أمام شاشات كمبيوتر ملونة إما باللون الأزرق أو الأحمر أو بلون محايد ومن ثم قاموا باختبار قدرتهم على تأدية مختلف المهام.
بينت النتائج أن الأشخاص الذين تم وضعهم أمام شاشات حمراء كان أداؤهم في الاختبارات التي تتعلق بالذاكرة وتصحيح الأخطاء الطباعية أفضل من غيرهم من المشاركين، أي بعبارة ثانية فإن الأشخاص الذين تم وضعهم أمام شاشات حمراء كانوا
أفضل في المهام التي تتطلب الاهتمام بالتفاصيل، ولكن بالمقابل فإن الأشخاص الذين تم وضعهم أمام الشاشات الزرقاء كان أداؤهم أفضل في المهام الإبداعية، مثل التفكير في عدد الاستخدامات التي يمكن من خلالها الاستفادة من قرميدة واحدة، ومن هنا استنتج الباحثون أنه من الممكن أن يكون اللون الأحمر قد حث المشاركين على “الحذر” من الوقوع في الخطأ مما منعهم من أخذ المخاطرة وإطلاق العنان لمخيلتهم، في حين كان تأثير اللون الأزرق معاكس، حيث أنه “سمح” للمشاركين بفتح المجال أمامهم ليكونون أكثر حرية في تفكيرهم، مما أدى إلى المزيد من الإبداع.
لاختبار هذه الفكرة، طلب الباحثون من المتطوعين بأن يقوموا بتشكيل كلمات مختلفة تتعلق بأفعال “الحذر” أو “السماح” من مجموعة واحدة من الأحرف، وبينت النتائج أن المشاركين كانوا يشكلون الكلمات التي تخص أفعال الحذر بطريقة أسرع إذا ما كان لون الخلفية التي وضعت عليها الأحرف حمراء، وأنهم كانوا يشكلون الكلمات التي تتعلق بأفعال السماح بسرعة أكبر إذا ما كان لون خلفية التي وضعت عليها الأحرف زرقاء، وهذا يدل على أن الألوان والسلوكيات ترتبط بالفعل في أذهانهم.
وعند هذه النقطة قام الفريق بطرح التساؤل التالي: هل يمكن أن يتم تطبيق هذه النتائج في بعض المجالات المعينة، فهل يمكن مثلاً طلي الجدران بألوان مختلفة اعتماداً على المهمة التي سيتم أداؤها فيها، مثل طلي الغرفة التي سيقوم بها فريق علمي بالبحث عن الآثار الجانبية لدواء جديد باللون الأحمر، وطلي الغرفة التي سيتم فيها تبادل الأفكار الإبداعية باللون الأزرق ؟ علماً أنه في الواقع، يبدو هذا الأمر مربكاً قليلاً، ففي المكتب الواحد أو الصف الدراسي الواحد قد يكون على الشخص التفكير بشكل إبداعي في بعض الأوقات والاهتمام بالتفاصيل في أوقات أخرى.
الجدير بالذكر أن التجربة السابقة الذكر وصلت إلى نتائجها من خلال إجراء التجارب على 69 شخصاً فقط، وعندما حاول فريق آخر تكرار هذه التجربة باستخدام مجموعة أكبر من المتطوعين وصل عددهم إلى 263 في عام 2014، تبين أن تأثير اللون قد اختفى تماماً عندما قاموا بتكرار تجربة تشكيل الكلمات، أي أن لون الخلفية لم يستطع إحداث أي فرق في التجربة.
من هنا يمكن القول بأنه من الواضح أن دراسة تأثير اللون على الأشخاص هو أصعب بكثير مما يبدو عليه – أو ربما قد لا تكون الألوان تحمل تلك المفاهيم التي نتوقعها-، ولكن مع ذلك فإن الكثير من الأشخاص وحتى أصحاب القرار لديهم قناعة بأن اللون له تأثير على تصرفات الإنسان، حتى أن بعض السجون في الولايات المتحدة الأمريكية وسويسرا وألمانيا وبولندا والنمسا والمملكة المتحدة تمتلك زنزانات تم طلاؤها بدرجة معينة من اللون الوردي، فمثلاً في سويسرا 20% من السجون ومراكز الشرطة تمتلك زنزانة وردية واحدة على الأقل.
في عام 1979 تم إجراء تجربة شارك فيها مجموعة من السجناء، حيث تم عرض بطاقة ذات ألوان زرقاء أو وردية عليهم، وبعد ذلك طلب من السجناء محاولة مقاومة ضغط المجرب على أذرعهم، ومن خلال هذه التجربة تبين أن السجناء الذين شاهدوا البطاقات الزرقاء كانوا أكثر مقاومة للضغط، ومن هنا استنتج المجربون أن البطاقات الوردية اللون كانت تعمل بطريقة أو بأخرى على تقليل عدوانية السجناء، ولكن مجدداً فشلت العديد من المحاولات لتكرار هذه النتائج في الدراسات التي تم تصميمها بشكل أفضل، ففي عام 2014، قام فريق من الباحثين بدخول سجن مشدد الحراسة في سويسرا لإعادة البحث في النظرية التي تقول بأن اللون الوردي للزنزانات يهدئ السجناء، وفي هذه المرة استخدم الفريق تصميماً أفضل بكثير من الذي تم استخدامه في البحث الذي تم إجراؤه قبل 30 عاماً، حيث تم في الدراسة الجديدة إدخال مجموعة من السجناء الذين سبق لهم كسر قوانين
السجن بشكل عشوائي إلى زنزانات مطلية إما باللون الوردي بالكامل أو زنزانات تم طلي جدرانها باللون الرمادي وسقفها باللون الأبيض، وتم تكليف ضباط مدربين لتطبيق معدل معين من العدوانية لتقييم سلوك السجناء، وكانت النتائج مخيبة للآمال، فبعد مضي ثلاثة أيام في الزنزانات كان كلاً من السجناء الذين تم إدخالهم إلى الزنزانة الوردية والسجناء الذين تم إدخالهم إلى الزنزانة الرمادية والبيضاء أقل عدوانية مقارنة بدرجة العدوانية التي أبدوها عند دخولهم للزنزانة في المرة الأولى، وهذا يعني أن لون الجدران لم يساهم في إحداث أي تغيير على الإطلاق.
من هنا أشار مؤلفو الدراسة الأخيرة أنه إذا كان اللون الوردي لا يؤثر سوى على مجموعة قليل من الأشخاص فقط، فقد يكون على السلطات إعادة النظر عند اتخاذها لمثل هذه القرارات، وقد أضافوا أيضاً إنه من الممكن جداً أن يكون لهذه الجدران الوردية تأثير سلبي على السجناء، إذ أنه قد يشعرهم بأن السجانين يهزؤون بهم بسبب وضعهم في زنزانة مطلية بلون أنثوي تقليدي.
أخيراً يمكن القول بأن الألوان قد يكون لها تأثير على حياتنا، ولكن حتى الآن لم يتم إثبات هذه الآثار، والجدير بالذكر بأن هناك دراسات جديدة تجري حالياً لإثبات هذه الآثار، ولكن قد يمضي بعض الوقت قبل أن نحصل على صورة كاملة للكيفية التي يؤثر فيها اللون علينا، ناهيك عن فهم الآليات الدقيقة التي يحدث من خلالها هذا التأثير، وفي الوقت الحاضر، ينبغي أن يكون الديكور الداخلي للمنزل مزيج من الذوق الشخصي لصاحبه إضافة إلى الذوق الفني.