هذه المادة منقولة من مؤسسة الفكر العربي للكاتب اللبناني محمود بري
ما عرفتُ واحداً من الأصدقاء أو المعارف المتنوّرين إلّا ووجدته ملتزماً سلوكاً مستجدّاً يقتضي منه أن يتناول عدداً لا يُستهان به من حبوب الفيتامينات المتنوّعة بشكل يومي. وقد اعتدتُ على وجود نوعٍ من العلب البلاستيكية ذات الخلايا المنمّقة والمتناسقة على الطاولات الشخصية في مكاتب العمل، وفيها تُرصَف مختلف أنواع حبوب الفيتامينات الدوائية ”المغذّية“ التي اعتاد أصحابها على تمييزها عن بعضها البعض بألوانها وأحجامها وأشكالها المتنوّعة…
الحمراء الصغيرة لتقوية الجهاز العصبي(مجموعة فيتامين ”ب“)، الصفراء فيتامين للحيويّة والنشاط وصدّ نزلات البرد(فيتامين ”ج“)، البيضاء المكوّرة لتهدئة الأعصاب(ملح ”مانييزيوم“ المعدني)، البيضاوية الزهرية هي تركيبة فيتامينية واسعة، أما الزرقاء فهي على نوعين، الأولى صغيرة بحجم حبّة العدس وهي لحاسّة النظر(فيتامين ”أ“)، والثانية كبيرة وهي ”خلطة“ أملاح معدنية ومواد دقيقة من سيلينيوم ويود وكروم ونيكل للحفاظ على رونق الشباب… ولا داعي لتكون خبيراً في أصناف الأدوية، إذ يكفي أن تتساءل، ولو في خلدك، حتّى تنهال عليك التفسيرات والأجوبة.هذا المشهد الغريب على العديد من طاولات العمل في المكاتب ليس فكاهياً على الرغم من أنه يشي بالفكاهة.
فواحدنا يضع أمامه على طاولة العمل كلّ مقوّمات عافيته (كما يفهم مقوّمات العافية) على شكل حبوب يوزّعها بعناية في نخاريب علبتها المخصّصة لمثل هذا الغرض، ويتناول من هذه الحبوب ما يجده مناسباً وضرورياً له، وغالباً في مواقيت محدّدة. عشر أو عشرون حبّة يومياً، وربما أكثر، ولا عجب.
مرّة قرأت لأحد نجوم ”الأكشن“ في هولييود(سيلفستر ستالون) أنه يتناول حوالى أربعين حبّة فيتامينية كلّ يوم، بما في ذلك أيام الآحاد والأعياد.الأمر هو نوع عصري من الحرص الشديد على العافية يقترب من حدود الهَوَس. إلّا أنه هوس ”على الموضة“ تماماً. وإن شئتُ ”فلسَفةَ“ الظاهرة، أقول إنها من الضرائب (غير المباشرة) التي ندفعها من دون أن نعي، لقاء التقدّم المحقّق والمتواصل، الذي بات شائعاً في ميادين المعرفة الصحّية والطبّية والدوائية. كأنّ ثمّة نوعاً من التحالف الوطيد بين العالِم والصانع والتاجر، هدفه صحّة المستهلك وإقناعه بأن مصلحته بل شبابه وحياته برمَّتها تكمن في تناول هذه الحبوب الملوّنة، (والتي أعتقد أنهم يلوّنونها لجعلها جذّابة ومُبهِجة). وأنا هنا لا أنتقد أحداً لأنّني من جملة ”مبتلعي“ هذه الحبوب…وهذه ليست نقيصة أبداً. فكلّنا في الحقيقة، أبناء هذا الجيل، والأجيال القليلة التي سبقته وتلك القليلة أيضاً التي ستليه، جميعنا نُعتبَر ”أبناء شرعيّين“ للفيتامينات وسطوتها وسُمعتها اللامعة، والتي ننسب إليها ما يشبه القوى السحرية، متسلّحين بأخبار الإنجازات الدوائية التي نقرأ أو نسمع عنها، وبمباركات الأطبّاء الذين نستشيرهم، وتشجيعهم.
ألا تُغنيني حبّة فيتامين ”سي“ فوّارة واحدة عن تناول أكثر من كيلوغرام من البرتقال…؟ نعم. نحن أبناء شرعيون لمثل هذه ”الإرشادات“ و”الأقاويل“ و”النصائح“ و”المعلومات“.
وهذه من سِمات عصرنا الراهن. ثمّ، ألسْنا جميعاً نلهث للمحافظة على ريعان الشباب، ولدينا كامل الاستعداد لتناول كلّ شيء وأيّ شيء يعدنا بتحقيق ذلك؟وأيضاً: ألا ”تُقوّي“ الفيتامينات الصحّة وتعزّز المناعة وتفتك بالجذور الحرّة الهائمة التي فيها سرّ تدمير الشباب والنضارة، وأيضاً… تُبعد الشيخوخة سنوات إلى الأمام؟وفوق ذلك كلّه هناك الأكسدة، أكسدة الخلايا… وفي مواجهتها مضادات الأكسدة، وحامية حِمى الخلايا. الأولى ”تصنع“ الشيخوخة، والثانية تكافح هذا الصانع الوبيل، فتحافظ – بالنتيجة- على الشباب… لكلّ ذلك فإنّنا نتناول الفيتامينات والأملاح المعدنية والمواد الغذائية الدقيقة (Oligo-elements) فنقوّي أجسامنا وندعم مناعتنا الطبيعية ونكافح الجذور الهائمة وعمليات الأكسدة… والنتيجة التي نتوخّاها هي الاحتفاظ بالعافية ونضارة الشباب، جنباً إلى جنب مع التقدّم في السنّ، بل على الرغم منه.
هذا كلّه من خلاصات النظريات العلمية ”الجادّة“ والشائعة في أوساط المتنوّرين السائرين في ركب التقدّم العلمي والمتابعين لنتائج الأبحاث الجارية على قدم وساق في هذا الشأن، والمستنيرين بهَدي ما يقوله جهابذة الطبّ والدواء والغذاء والثقافة الصحّية.
وكلّ ذلك هو ما ”يُقنعنا“ بعلبة الفيتامينات على الطاولة وما فيها من حبوب وألوان ووعود.لكنْ ثمّة جديدٌ على هذا الصعيد، جديدٌ مُثير جداً… للرعب، ومن شأنه، إن صحّ، أن يضع نقطة النهاية المأسوية لمملكة الفيتامينات الوارفة ووعودها الإيجابية العظيمة.ولنبدأ من مفهومَيْ ”الأكسدة“ و”الجذور الحُرّة“. فالقول بإن أكسدة الخلايا هي السبب الحقيقي للتشيّخ، وإن مضادات الأكسدة (من فيتامينات وخلافه) هي الضامن للصحّة والمعزّز للشباب والمُبعد للشيخوخة، هذا القول لم يعد منزّهاً عن النقد.
لا بل إنه بات، وبرأي كثيرين من عباقرة العلوم اليوم، قولاً فيه من الرغبات والتمنيات أكثر بكثير ممّا فيه من الحقيقة. وهذا تعبير ملطّف للقول بإنه زعمٌ معلّق في الهواء ولم تعدْ تسنده حقائق العلم اليوم. وإن شئنا تهوين الأمر، نقول إنه بات ”أجمل من أن يكون صحيحاً“.
فحتّى الأمس القريب كان الاعتقاد السائد بأن تراكم الضرر في الخلايا يزيد إطلاق الجذور الحرّة فيها، وهذه تعمل بنشاط تدميري على أكسدة الخلايا (الأكسدة أي حرق الخلية واستهلاكها وموتها)، ما يؤدّي إلى إضعاف الأنسجة والأجهزة الحيوية ومعها أداء الجسم بما هو عضلات وأنظمة وأعصاب وقوى، والتسبّب بالتالي بحالة التقدّم في السنّ نحو الشيخوخة أو ما يسمّونه التشيّخ. وكان العلم (السائد) يقول بضرورة التصدّي لـهذه ”الجذور الحرّة“ ومكافحتها والقضاء عليها، كطريقة وحيدة ومؤكّدة لفرملة عملية أكسدة الخلايا و وكبحها، وبالتالي إطالة عهد الشباب ودفع الشيخوخة ومظاهرها إلى الأمام في الزمن.كان هذا حتّى الأمس القريب. أما اليوم فيبدو أن هذه الحقيقة قد تغيّرت، أو بالأحرى انقلبت رأساً على عقب، على الأقلّ بحسب ما خرج من ”معهد بارشوب“ في جامعة تكساس الأميركية.
فقد أجرى ”قسم التعمير والتشيّخ“ في المعهد جملةَ تجارب كان الهدف الأساس منها تقديم تأكيد إضافي للرأي القائل بأن الجذور الحرّة هي التي تدفع عملية التشيّخ قدماً إلى الأمام حسبما تقول النظرية الشائعة. إلّا أن نتائج تلك التجارب جاءت مناقضة تماماً لما كان منتَظَراً منها، وبدلاً من تثبيت التهمة على الجذور الحُرّة، فقد بيّنت أن هذه الجذور قد لا تكون خطرة البتّة.. بل ربما كانت على النقيض من ذلك، مفيدة وصحّية، وخصوصاً أنها تحفّز آليات الدفاع الذاتي داخل الخلايا.
وبالتالي فهذه الجذور ليست جُزيئات مدمّرة للخلايا بل هي إشارة بيولوجية تلقائية تنبّه إلى الضرر الحاصل في الخلية، فتحفّز آلية المناعة الطبيعية للعمل على إصلاح هذا التلف. وبالتالي يمكن الافتراض بأن الجذور الحرّة تتراكم أثناء حدوث عملية التشيّخ، لكنّها لا تسبّبها. فهذه الجذور تُسبّب نوعاً من الاستجابة من قبل الجسم تقوده إلى إصلاح ما يتخرّب فيه. وهكذا فهي تكون نتيجة مباشرة للضرر الذي يصيب الجسم بفعل التقدّم في العمر، ولا تكون سبباً له. وفي تأكيد ذلك نشرت حديثاً مجلّة ”Current Biology“ العلمية الأميركية أن ”بعض الجذور الحرّة تولّد جيناً معيَّناً (يسمّى HIF-1) يعمل على تفعيل الجينات المكافحة التي مهمّتها أن تُصلِح الخلايا“.فإذا كانت الجذور الحرّة غير خطرة بل صحّية وتحفّز آليات الدفاع عن الخلايا، فذلك لن يقتصر تأثيره على الأبحاث الجارية في سبيل مقاومة التشيّخ فحسب، بل يثير تساؤلات منطقية حول الجدوى من تناول أفواج الفيتامينات اليومية ومضادات الأكسدة التي ندفع الكثير لكي نبتلعها.
وإذا تأكّد أن الجذور الحُرّة ليست مسؤولة عن التسبّب بالتشيّخ، فإن تناول المواد المضادة للأكسدة على شكل مكمّلات غذائية، من فيتامينات وأملاح معدنية ومغذّيات دقيقة أخرى، يمكن أن يكون غير نافع بل وحتّى ضارّاً لمَن يتناوله…فإذا لم تكن هذه الجذور سيّئة، فإن الحبوب الكثيرة الملوّنة التي نتناولها لمكافحة الأكسدة، قد لا تكون أمراً طيّباً. وهذا جدير بإثارة القلق بالنظر إلى العدد الهائل من ”المتنوّرين“ الذين يتناولون كمّيات الفيتامينات وأخواتها بشكل يومي.وبناءً على ما استجدّ من معارف في هذا السبيل، بات مفهوماً سبب اندفاع جمعية القلب الأميركية لتوجيه النصائح للناس الأصحّاء بألّا يتناولوا مضادات الأكسدة.أما مكافحة تأكسد الخلايا ومطاردة أحلام الشباب الدائم بالنضارة التي لا تتأثّر بالتقدّم في العمر، فسوف تنضمّ على الرفّ إلى جانب جدّاتها من فئة ”إكسير الشباب“ التي جهد الأقدمون على طريقها من دون أن تتحقّق الغاية.وأرجو ألّا يُفهم من هذا أن العلب المنمّقة ذات النخاريب المتناسقة سوف تختفي عن طاولات مكاتبنا. فالقناعات التي بنيناها على امتداد سنوات طويلة، والثقة الكبيرة التي محضناها للفيتامينات وأخواتها، ستكون ”أعند“ من أن تنقلب إلى عكسها بين يوم وليلة.
ثمّ أين سنذهب بهذا المخزون من الحبوب الملوّنة التي دفعنا ثمنها غالياً واستقدمناها من مختلف أرجاء الدنيا؟
مهما كانت النهايات، فإن الأمر كلّه يُسهِم بطريقة ما في دقّ المسمار الثخين في نعش مملكة الفيتامينات ومضادات الأكسدة التي نمتطيها في أحلام يقظتنا، ونُنفق المليارات في سبيلها حول العالم. وكلّ أمنياتنا أن نكون في تناولنا، على حقّ… على الرغم من أنف العلم والعلماء.*كاتب وإعلامي من لبنان