دائما ما تنتهى الحياة بالموت نتيجة للتوقف النهائى الذى لا رجعة فيه لجميع الوظائف البيولوجية التي تدعم الكائن الحي. فالموت هو الحقيقة الوحيدة التى لا يستطيع انكارها أى جاحد امتلك من العقل بعضه أو حتى كله. فلك أن تنكر أى شئ لم تراه عيناك ولم تلمسه يداك ولكنك لن تستطيع بأى حال من الأحوال أن تنكر الموت الذى تراه رؤى العين فى كل الكائنات السابقة التى كان منها ما هو حى أو غير حى. ولا يتوقف هذا الاقرار بحقيقة وجود الموت على الانسان بل يمتد هذا الاقرار الى باقى بل كافة الكائنات الحية، فلك أن ترى رقرقة الدموع فى عيون الحيوان عند فقده ووفاة ما هو عزيز عليه كصغيره مثلا، كما يمكنك ملاحظة وهن وذبول شجرة عند قطع بعض أغصانها أو فقدها لمن كان يرعاها. فالكل وبلا استثناء لا يستطيع انكار أن الموت مخلوق من مخلوقات الله عز وجل، مع أن بعض الملحدين ينكرون وجود الله أصلا. وعلى الرغم من هذا قد يكون الموت حلقة من سلسلة الحياة (كما فى السلسلة الغذائية) التى سوف تنتهى فى ساعة لا يعلمها الا الله عز وجل، وعندها سنتهى الحياة الدنيوية تامة ويتحقق الموت المؤدى الى الحياة الأخرة.
والموت ما هو الا نقمة طبقا للطبيعة البشرية التى قد يستثنى منها من رحمهم الله برحمته وأدركوا أن الموت فرض عين كفرضية الحياة. ومن حيث نقمة الموت التى قد تعتصر قلوب الكثيرين وتقوم على حزن الفراق، لن تجوب الا القلوب الضعيفة والعقول المحدودة والنفوس الرافضة لطبيعة الواقع. نقمة الموت لا تخيم ولا تلقى بخيوط شباكها الا على قاطنى ديار الحياة التى لم تدرك ولم تفهم المعنى الفلسفى للحياة الذى قد يقترب من أنطولوجية علم الوجود كأحد الأفرع الأكثر أصالة وأهمية في الميتافيزيقيا. هذه الأنطولوجيا التى أثبتت مردوديتها في ميادين عدة مثل الذكاء الصناعي والطب وهندسة البرمجيات، إلخ.
ومع غياب حقيقة الموت، هل تستقر الطبيعة البشرية؟ وهل تكف عن نحيبها وتقر عينها وتسكن الطمأنينة قلبها؟. بل هل تستمر الحياة الدنيوية الى ما لا نهاية؟، بالتأكيد لا، لا لشئ غير أن هذه الاستمرارية سوف تدمر الحياة نفسها. فمع غياب الموت سوف يزداد كم وكيف كل الأشياء بل وسوف يزداد الأغنياء غنى ويزداد الفقراء فقرا مع زيادة طغيان الطاغى وتفاقم فساد الفاسدين وهلم جرة. ومع غياب الموت ستتوقف دورة الحياة الدنيوينة والتى منها على سبيل المثال لا الحصر السلسلة الغذائية التى هي سلسلة من العلاقات الغذائية المترابطة بين الكائنات الحية في نظام بيئي معين، بمعنى آخر هي الترتيب الذي تنتقل به المادة والطاقة في شكل غذاء من كائن حي إلى آخر ونتيجة لذلك تتداخل سلاسل الغذاء في النظام البيئي وتتشابك لتشكل شبكة غذائية معقدة. ولأن الموت لا يغيب أبدا، فنجده فى صورته المرحلية لبعض الكائنات عند تنظيم سلاسل الغذاء التى تمر عبر عدة مستويات غذائية، حيث تتغذى الكائنات الحية في كل مستوى على الكائنات الحية في المستوى الأدنى وتكون بدورها غذاءً للكائنات الحية من المستوى الأعلى، وتمتد السلسلة الغذائية النموذجية للأراضي العشبية من الأعشاب إلى الأرانب التي تأكل الأعشاب إلى الثعابين التي تأكل الأرانب والصقور التي تأكل الثعابين. وقد يتضح هذا جليا مع وصف ” بارمينيدس” لأنطولوجية طبيعية الوجود الأساسية التى تقوم على وجهتي نظر عن الوجود، فالأولى هي أنه ليس هناك شيء يأتي من العدم، وبالتالي فإن الوجود أبدي. والثانية، وهي مترتبة على الأولى، أن آرائنا عن الحقيقة التى منها ظاهرة الموت لابد وأن تكون، في العادة، خاطئة ومضللة. مفاد هذا أن الحياة لن تكون الا فى الموت والموت لن يكون الا فى الحياة فكلاهما شئ من كل شئ وكل شئ من شئ.
فالموت ليس نقمة بل هو فى ذاته وحقيقته نعمة من نعم الله عز وجل، تستحق وتستلزم من الجميع اعادة التفكير فيها ووضعها فى مكانها الصحيح والوقوف على ماهية ظاهرة الموت كنعمة قبل أن تكون نقمة. وبصرف النظر عن دومات الحزن والألم التى يخلفها الموت، فالموت المرحلى مع استمرار الحياة الدنيوية لبقية الكائنات والمكونات والموت الدائم مع انتهاء الحياة الدنيوية لكل الكائنات والمكونات، كلاهما (الموت المرحلى والنهائى) يشكلان شقى الحياة (الدنيا والأخرة) ، كما يشيدان جناحى مركبة الوجود.