إنه من البدهيات الآن أن المرضى لا يشعرون بألم العمليات الجراحية، ولكننا قد نغفل أن ذلك لم يكن منذ طويل الأزل، بل أنه كان إعجازا علميا عندما تم الوصول إليه في قرابة منتصف القرن التاسع عشر.
الحياة قبل التخدير:
ولكن قبل ذلك كانت العمليات الجراحية ملاذا أخيرا ويائسا، وخيارا غالبا ما يكون الأكثر قسوة على كل من المريض وطبيبه.
ففي القرن التاسع عشر لم تتوفر وسائل للتخدير إلا الكحول أو الأفيون أو العض على القماش حتى أن البعض كان يلجأ لصدم الرأس بأداة صلبة حتى يصيب المريض بالإغماء ليتمكن من إجراء الجراحة له.
فتصور لنا عبارات فاني برني –الروائية الإنجليزية الرائجة- في سبتمبر 1811، عندما قالت عن اضطرارها للخضوع لعملية استئصال للثدي:
“عندما التحم حديد المشرط المروع بأنسجة الثدي، لم يكن شيئا ليكبح صرخات ألمي، صرخت صرخة غير منقطعة استمرت طوال إجراء الجراح للشق، فكم كان الألم مبرحا! ومن ثم سمعت صوت السكين تلامس عظام الصدر وتكحتها.”
ولم يكن المرضى هم فقط من يعاني، كذلك كان الجراحون، فنرى الجراح جون أبرناثي في مطلع القرن التاسع عشر يصف الدخول إلى غرفة العمليات مثل الاستدعاء إلى مشنقة الإعدام وأنه كان شائعا أن يبكي الجراحون أو حتى أن يتقيؤوا بعد القيام بجراحات صعبة.
من أشهر تجارب المواد المخدرة:
في 1844 قام الطبيب هوراس ويلز باستخدام غاز أكسيد النيتروس -وهو ما يدعى أيضا بغاز الضحك- في التخدير لتسهيل عمليات خلع الأسنان وكانت أغلب نتائجه ناجحة طبقا لسجلاته.
إلا أنه في 1845 عندما قام بأول عرض علني عام لتلك المادة في جامعة طبية في بوسطن، على شاب احتاج أن يخلع ضرسه، بصحبة طبيب الأسنان ويليام تي جي مورتون الذي أصيب بالإحراج والإحباط معه حيث لم يعطي الغاز النتائج المتوقعة.
أول عملية جراحية باستخدام التخدير:
في أكتوبر 1846 قام الطبيب ويليام تي جي مورتون باكتشاف مادة أثير الكبريتيك أو الSulfuric ether، والتي استخدمها الجراح جون وارن لتخدير رجل متوسط العمر يدعى جلين أبوت، لإزالة ورم من أوعيته الدموية في الرقبة، لتكون تلك أول عملية جراحية تتم تحت تأثير التخدير الكلي.
وقد سمى مورتون اكتشافه ب“ليثيون” “Letheon” اقتداء “بنهر الليثيه” “Lethe River” الخاص بالأساطير اليونانية الذي اشتهر بأن ماءه يقوم بمسح الذكريات المؤلمة.
وقد طمح مورتون أن يكسبه اكتشافه ثروة طائلة بعد أن جربه على نفسه وعلى الكثير من الحيوانات وتأكد من فعاليته وأمانه فيما رأى، ولكنه سرعان ما اكتشف أن أثره كمخدر لن يستخدم لتسكين الآلام فقط.
مواد مخدرة أخرى:
في 1847 قام طبيب النساء والولادة الأسكوتلندي جيمز واي سيمبسون باستخدام مادة الكلوروفورم لأول مرة على امرأة في المخاض لتسكين ألمها.
ولم يشيع استخدام الكلوروفورم إلا بعد اكتشافه بفترة، عندما استخدمه طبيب النساء والولادة جون سنو لتوليد الملكة فيكتوريا ابنها الثامن، الأمير ليوبولد.
وانتشر استخدامه بعدها في عمليات جراحية من كافة الأنواع، حيث أنه لم يحدث أعراضا جانبية مزعجة كالتي أحدثها الليثيون، مثل إلهاب الأغشية المخاطية في الأنف والحلق وحالة الهياج التي يحدثها عند بداية استنشاقه.
في 1884 استخدم طبيب الرمد كارل كولر نيانيز الكوكايين كمادة مخدرة لإجراء عمليات العيون وتبعه الطبيب ويليام إس هالشتيد في استخدامه كأول مخدر موضعي لإجراء عملية في الفك من خلال تقنية إيقاف التوصيل عبر الأعصاب.
ومن 1894 إلى 1901 قام الطبيب هارفي كوشينج وتلاميذه بأول عملية تخدير مراقبة من خلال متابعة النبض ومعدلات التنفس ولاحقا تم ضم ضغط الدم من ضمن العلامات الحيوية التي تتم متابعتها.
التخدير في العصر الحديث:
تم استبدال مادتي الكلوروفورم والليثيون بمواد عدة تم اكتشافها لاحقا أكثر أمانا وفعالية مثل Isoflurane و Svoflurane
حيث أن الليثيون مادة سريعة الاشتعال مما منع استخدامه مع الأجهزة الكهربائية في العمليات الجراحية كأجهزة الكي أو حتى أجهزة متابعة المريض مثل جهاز رسم القلب.
أما الكلوروفورم فقد نتج عن استخدامه الكثير من حالات الوفاة المفاجئة نتيجة لتوقف القلب.
وأصبح التخدير مصطلح يشمل درجات عدة، ابتداء من التخدير العام مرورا بأنواع التخدير الموضعي المختلفة مثل التسكين الموضعي للألم أو تخدير جزء من الجسد أو التخدير النصفي وحتى تسكين الألم فقط.
كما أصبح التخدير العام واحدة من أكثر العمليات أمانا، فتعد نسب الوفاة التي يتسبب بها هو وحده ضئيلة جدا، تصل إلى واحد من كل 300,000.
المصادر:
https://www.umhs-sk.org/blog/medical-milestones-discovery-anesthesia-timeline
https://www.anzca.edu.au/about-anzca/history-and-heritage/history-of-anaesthesia