الأتمتة والروبوتات كلها بدأت من جزء ميكانيكي بسيط، تدعى بعجلة التاج، وهي في الحقيقة مسؤولة عن إصدار صوت الدقات في الساعات. هذه القطعة البدائية وضِعتْ للساعة في القرن الثالث عشر من أجل قياس الزمن بدقة أكثر، لكنها فعلت أكثر من ذلك.
فهي لم تقم فقط بجعل ميكانيكية الساعة متكررة ومتذبذبة (أي تعيد نفسها بنفسها) بدلاً من ان تكون مستمرة كالساعات الرملية والمائية، بل إنها جعلتها أيضاً تتحكم بذاتها وتضبط نفسها من دون تدخل بشري. وبهذه ، أصبحت الساعة أول روبوت و آلة صنعت في تاريخ التقنيات.
لعل أهالي القرن الثالث عشر كانوا فرحين جداً بهذا الاختراع، وظنوا بأنهم وصلوا إلى أكثر العصور تقدمًا في تاريخ البشرية، وقد كانوا محقين بذلك : لطالما كانت صناعة الساعات الدقيقة وظيفة معقدة لجميع الحضارات القديمة والمعاصرة لهم، حيث أشتغل فيها كبار العلماء والمفكرين القدماء من أرخميدس وافلاطون وبنو موسى وابن الجزري والأقدم منهم في الحضارات البابلية والمصرية والصينية.
فلا شك إن الناس في القرن الثالث العشر شعروا بالفخر بذلك الإنجاز العظيم، إنهم اخترعوا أعقد جهاز اوتوماتيكي عرفته البشرية حتى وقتهم. فبدأو بالتخيل ما الذي يمكن أن تتحول أيضًا إلى آلةٍ مفيدة.
الأتمتة والرياضيات
الأتمتة مصطلحٌ يطلق على كل شيء يعمل ذاتياً دون التدخل البشري أو ذات تدخل بشري ضئيل. والروبوت هو آلة تقوم بمحاكاة عمل الانسان بالاضافة الى الاشغال الاخرى التي يصعب على الانسان إنجازها اما بسبب البطء أو الكفاءة أو الكلفة.
العلم الوحيد الذي دفع الأتمتة والروبوتات إلى الأمام هو علم الرياضيات، ليست فقط لأنها ضرورية في الحسابات الميكانيكية والالكترونية، بل لأنها تمشي على نمط ثابت ومتكرر مما تجعل الامر سهلاً للروبوتات باتباعها، وهذا هو الشرط الأساسي عند اختراع الآلات.
الرياضيات كانت وما زالت مملة ومتوقعة ومتكررة النتائج، مملة حتى بالنسبة للعلماء، الذين عينوا في الماضي النساء للقيام بحسابات علمية وفلكية؛ حيث كانت هناك اعتقاد سائد بأن النساء أقل ذكاءاً من الرجال، وتوظيفهم في ذلك العصر عنت إن العلماء رأوا الرياضيات علماً سهلاً ولا تحتاج إلى الكثير من الذكاء والتفكير لإتمامها.
بدأ العالم القديم بتخيل آلات تقوم بعمليات حسابية، فقد كانت الساعة موجودة وتقيس لهم الزمن عبر الارقام بشكل دوري. جاءت من وراء الرياضيات والساعة (التي تتعامل مع الأرقام) فكرة ربط الآلات بكل ما يمكن تمثيله عن طريق الرياضيات (من الهندسة والإحصاء والحساب والتفاضل والتكامل). لأن اثنانهما تعملان حسب نمط معين متكرر.
تاريخ الأتمتة
كانت الساعة أول جهاز أوتوماتيكي في التاريخ وبقيت كذلك حتى جاءت الثورة الصناعية. ظهرت في تلك الفترة العديد من الآلات السريعة وذات الكفاءة العالية التي قضت على الأعمال الفردية والمنزلية. الأفراد، سواءاً كانوا حدادون أم خياطون أم تجار، لم يستطيعوا مجاراة المعامل والشركات التي اقامت علاقة بين المكائن الشبه اوتوماتيكية وبين البشر. إذاً، يجب أن نفهم أن سبب نجاح المعامل لا يرجع في تقسيم المهام بداخلها (حيث يقوم كل عامل بجزء بسيط من عملية الإنتاج)، بل المسبب هو هذه الآلات التي كانت تقوم بـ 50% من مهام عملية الانتاج، والـ 50% الأخرى كانت تُنجز بيد العاملين، وهذه النسبة البشرية بدأت تتضائل لصالح الآلات عقداً بعد عقد، يمكنني القول بثقة إن أغلب وظائف الإنسان اليوم في القرن الواحد والعشرين تُنجز 75% منها من قبل الآلات والالكترونيات، والإنسان المتوظف يقوم بباقي الـ 25%.
كابوس ماركس
الأفضل من ذلك هو أن الفيلسوف الألماني كارل ماركس الذي عاش في خضم الثورة الصناعية تنبأ بظهور الروبوتات وطغيانها على الوظائف البشرية في المستقبل قبل 170 عاماً من اليوم، في زمن لم يُخترع فيه حتى المصباح الكهربائي.
تحدثَ في كتاباته (قطعة عن الآلات) عن الاجهزة التي لديها قدرة على التحرك والتحكم بذاتها، والتي تمتلك عدة أعضاء مختلفة تقوم بإبتلاع العامل وتجعله امتداداً لأحد أعضائها بدلاً من أن يكون هؤلاء العمال شريكاً للآلات في المعمل. هذه الآلات بنظر ماركس تمتلك أرواحاً تشبه أرواح البشر تماماً، وتستهلك النفط أو الفحم كما يستهلك الإنسان الطعام.
صناعة دماغ للآلة
من عام 1750 حتى منتصف القرن العشرين، أُستخدمت الآلات كعضلات فقط (مع وجود بعض اجهزة التحكم البدائية فيها)، أي إنها كانت تقوم بما يقوم به عضلات الإنسان من الأعمال. لكن مع بداية ظهور الحواسيب في الأربعينات من القرن العشرين، أصبحت لدى الآلات أدمغةً وأعصاب جعلتها قادرة على التحكم بذاتها و بعضلاتها وأعضائها الأخرى. لم تعد المكائن بعد ذلك اليوم تعتمد على البشر للضغط على الازرار أو البارات عند مؤشر معين، فهي باشرت بضبط نفسها بنفسها والقيام اوتوماتيكياً بتخفيض وترفيع الحرارة والضغط وكمية المواد. لكنها بقت تفتقر إلى شيء آخر جعلتها تعتمد على صاحبها، فهي لم تستطع إصلاح عيوبها من نفسها، وإنما اعتمدت على المهندس والمبرمج معاً لتصحيح مسارها وتنقية عيوبها.
إلى أن جاء عصر الذكاء الاصطناعي في بدايات 1990 التي مهدت الطريق لظهور اجهزة الهاتف الذكي والمنزل الذكي والقيادة الذاتية الذكية التي باستطاعتها انزال طائرة في الجو إلى المطار من دون أي مساعدة بشرية. تمكنت الالكترونيات اخيراً من برمجة نفسها والتعلم من اغلاطها السابقة، منذ مطلع التسعينات حتى يومنا الحاضر ما زالت الآلات في طور تحسين ذاتها ومحاولة إبهار خالقها بقدراتها الخارقة والاستثنائية. ولا زالت هناك العديد من المسافات التي يجب أن تقطعها الذكاء الاصطناعي حالياً للوصول إلى المثالية المُرادة، لكننا نأمل ونؤمن بأننا قادرون – بمعدات وتقنيات المعاصرة – على اختراع آلة محاكية بالضبط للإنسان، هذه آلة تكون قادرة على أن تشعر وتفكر وتأكل، قادرة على العمل والترفيه والتخديم بشكل أسرع وأكفأ وأفضل من البشر.
تبّقى ميزة أخيرة للروبوتات أن تمتلكها في المستقبل حتى تُكمل عملية الأتمتة وتتحرر نهائياً من الإنسان، إلا وهي صنع وهندسة ذاتها بذاتها. فأجهزة المعامل مرتبطة الآن بالآلات والبرامج الذكية، وتقنية طباعة ثلاثية الابعاد بدأت بالتطور أكثر وأكثر، إذاً من الطبيعي علينا ربط هاتان الآلتان معاً لصنع المزيد من الروبوتات من قبل الروبوتات حسب الحاجة داخل المعمل.
آلاتٌ في خدمتك
كما قلنا إن الإنسان المعاصر في القرن الواحد والعشرين يقوم فقط بـ 25% من وظيفته مما كان يقوم به السابقون في بدايات القرن العشرين، بينما تقوم الأجهزة الإلكترونية والآلات والأذرع الروبوتية بسائر العمل. نحن نعلم حتى إن علماء الباحثين والمهندسين لا يفعلون الحسابات الرياضياتية باليد بعد الآن، فهُم يعتمدون على البرامج الذكية الموجودة في الحواسيب من أجل الإحصاء والتعرف على المواد في المختبرات وإجراء اختبارات فيزيائية.
الأطباء الآن يعتمدون على الأجهزة الموجودة في المختبرات التحليلية لكي تُترجم لهم وتُفسر نتائج التحاليل المتعددة والمعقدة، المكائن الحديثة من الأشعة السينية والسونار والمفراس وتخطيطات القلب والدماغ كلها تعتمد على الذكاء الاصطناعي لكي تجمع معلومات هائلة و تترجمها للطبيب. وهناك أذرع روبوتية تقوم الآن بعمليات جراحية كبيرة وحساسة بشكل أدق وأفضل من الإنسان (لكنها لا تزال في قيد التطور من ناحية ذكائها الاصطناعي).
في المجالات العسكرية، تقوم الذكاء الاصطناعي بقيادة الطائرات والسفن الحربية فضلاً عن الدرونات، وهى نفسها تقوم بالمراقبة والكشف وكذلك تفجير العبوات الناسفة.
اما في التعليم، أثرت ظهور الانترنت والهواتف الذكية الى التقليل من شأن الأساتذة والمعلمين عن طريق فتح مجال للتعليم الالكتروني الذي يتم مشاهدته آلاف المرات من دون إجهاد الاستاذ سوى مرة واحدة. إلا إن هذه كانت تفتقر إلى عامل التفاعل، أما الآن تقدر البرامج الذكية على الاجابة على اسئلة معقدة وفنية وغريبة بشكل لا بأس به.
دخلنا بالتدريج إلى عالمٍ من الأتمتة والروبوتات، ويجب علينا أن نتوقع الأسوأ فيه، السيطرة على الوظائف البشرية بالكامل، فهذه المكائن قد تقوم يوماً ما باستخراج وتنقية المواد الخامة وهي نفسها تقوم أيضاً بنقلها، وهي التي تعالجها وتحولها الى منتجات اخيرة، وهي التي تبيعها، وهي التي تشرف على تلك العمليات وحدها. وتبقى لنا الاستهلاك فقط.
نهاية العالم الكلاسيكي
لن نستطيع العودة بعد الآن إلى عالمنا البدائي، والسؤال الرئيسي هو: ماذا سيحصل لنا لو اُنتج كل شيء من قبل الروبوتات؟ ما الذي سنفعله وكيف سنقضي أوقاتنا بدون العمل؟ كيف سنعيش وعلى ماذا نستند في توزيع مصادر المحدودة؟ هل فعلاً سينهار الاقتصاد الرأسمالي الذي لطالما تعاملت معه البشرية منذ القِدم؟
من المتوقع إن قيمة المال ستتلاشى مع ازدياد الاتمتة في الشركات والاسواق، ستتمكن من شراء السلع والخدمات بأسعار بخيسة للغاية حتى تُقدم العديد من تلك الخدمات والمنتجات مجاناً للناس من دون مقابل، وهذا هو الشيء الإيجابي في الأتمتة، لاننا سنستطيع بمساعدة الروبوتات القضاء على الفقر المطلق والجوع نهائياً من العالم، بالاضافة الى اقصاء البؤس وعدم المساواة المتفشيتان في الدول النامية. كذلك ستُخمد اغلب الاقتتالات الداخلية والحروب الدولية التي سببها المصادر المادية المحدودة. وسيتحقق أخيراً حلم الدخل الأساسي الشامل ويتوسع ليتضمن عدة أشياء إلى ما وراء اطر الاساسية من التعليم والصحة والمعيشة المجانية.
سوف تتغير قوى السلطة ايضاً، حيث لن تكون بيد الاقلية كما هي الآن، وسينهار الجدار بين الاغنياء والفقراء، عندها لن يمتلك الغني شيئاً لا يملكه الفقير لان المنتجات ستكون رخيصة للغاية إن لم تكن مجانية. المشكلة الوحيدة التي ستواجهنا في هذا العالم هو طريقة توزيع المنتجات بشكل عادل، نحن لا نعلم الى حد الان من الذي سيقوم بهذه العملية، والصراع من أجل المواد الخامة سوف تفقس من رحم هذه المشكلة.
إذاُ، نحن اصبحنا اسياد الكون بفضل هذه الآلات المخترعة، لقد أزيحت عن ظهورنا عبئ الدنيا ومشاكلها التي كانت تتعبنا وتدفع بعضنا نحو القيام بافعال غير اخلاقية من السرقة والقتل والاغتصاب والتدمير. ليس علينا أن نعمل بعد الآن ست ساعات في اليوم فقط لكي نعيش ونُعيش أهلنا في ومض النعيم. لقد وصلنا الى جنتنا في الارض، اي شيء تحتاجه، أي شيء ترغبه، في أي وقت تطلبه، سوف تكون حاضراً أمامك.
لكن…
لكن ما الذي سنفعله إن لم نكن نعمل ونطلب العلم ونغير السياسة والاقتصاد، لعلنا ننشغل بالفنون من الرسم والرقص والموسيقى. إلا إن الآلات تقوم بالفعل بتلك الفنون بشكل دقيق ورائع ومن المرجح إنها ستصل الى مستوى الانسان (بل ستجتازه) مع تطور القطع والبرمجيات. يصبح الفنان فناناً عظيماً عندما يخوض الكثير من تجارب المحاولة والخطأ عبر السنين وحتى عندما يكون خبيراً في فنه، فلن يكون جميع اصداراته جيداً وعظيماً. تخيل روبوت باستطاعته الخوض نفس تجارب المحاولة والخطأ وتصحيح الأخطاء في غضون ثواني وليست سنين، ويمكنه أن يفهم ويتوقع ما الذي يجذب مشاعر العامة ويلمس عواطفهم، كيف سيتنافس الفنان معه في ذلك الوقت؟ هذه الروبوتات والحواسيب أصبحت جيدة أيضاً في الفنون وبدأت بالفعل بإنتاج الموسيقى العذبة واللوحات الخلابة والافلام السينمائية الخيالية، ستتمكن الآلات حتماً في القضاء على وظائف الفنانين كذلك في المستقبل.
لا نعلم ما الذي سنفعله بالضبط في المستقبل وماذا سيكون دورنا في الحياة. على ما يبدو أننا سنتفرغ للمتعة الخالصة والشهوة التامة، ونتشارك تلك اللحظات المثيرة مع بعضنا البعض. هذه ستكون مذهب المتعة في أفضل حالاته.
هل ستكون نهايتنا بأذرع الروبوتات؟
يظن البعض إن الروبوتات سوف تتمرد على الإنسان فور ما تتطور وعيها الاصطناعي وتكتشف انها مجرد عبيدة للبشر. كون هذه الآلات مبرمجة على ارضائنا (مثلما نحن مبرمجين من جيناتنا على اشباع بطوننا ورغباتنا الجسدية) تعني بأن الآلات لن تقدر على التلاعب ببرمجياتها الأساسية وتغيير غايتها من الوجود دون علم المبرمج. اما لو تمت برمجتها على التمرد وفعل افعال شنيعة للاخرين، فهذه تقع على عاتق المبرمج وليس المبرمج عليه. الآلات هي في انتخاب اصطناعي مع بعضها البعض داخل بيئة التي صنعتها البشر لها، عليهم أن يتنافسوا فيما بينهم ليظهروا لنا من هو الأكفأ و الأسرع والأرخص في خدمتنا، وإلا التفكيك هو مصيرها ومصير الخاسرين في اللعبة.
محظوظون بوجود الآلات بجانبنا
إنها اختراع رائع بالفعل، هذه الاجهزة الاوتوماتيكية والروبوتات وفرت لنا الكثير من الزمن للقيام بأفعال أخرى بدل العمل، و سرعت من عملية تطور الحضارة وتقدم العلم والفن بنسبٍ لا توصف فعلاً منذ عام 1950 حتى وقتنا الحاضر، لربما كانت لتستغرق منا المئات من السنين لكي نكتشف أشكال البروتينات واعداد الجينات للكائنات الحية العديدة لولا الحاسبات والروبوتات المختبرية، لعل تاريخ حرب العالمية الثانية كانت لتأخذ منحنى آخر لولا قدرة آلة تورينج في فك شفرة الرسائل الالمانية المشفرة، لولا المكائن لما استطعنا زراعة النباتات لمساحات شاسعة من الأراضي ولما استطعنا أن نكسوا الملايين من البشر بالملابس، ربما لم نكن حتى لنصعد فوق القمر لولا الآلات والحاسبات التي ساعدت ابولو في رحلتها نحو الفضاء والعودة الى الأرض. استمعْ لثانية الى صوت بداية الاتمتة في ساعتك المنزلية او اليدوية الاوتوماتيكية، وتذكر إن كل شيء تملكه حولك لم تكن لتصبح ممكناً لولا تدخل آلة ما في مرحلة ما من انتاجهِ.