أجلس قبيل محاضة الطب النفسي في المشفى، بجواري سيدة تخبرني بأن ابنتها طالبة في كلية الطب تعاني من الإكتئاب الحاد بسبب الدراسة؛ ظننت في نفسي ان ابنتها قد رسبت في إحدى السنوات أو حصلت على تقديرات ضعيفة لكنها تكمل بنقيض ما تخيلت، فابتها من أوائل الدفعة وتقديراتها مرتفعة للغاية؛ لكنها دومًا تشعر بالسوء حيال نتيجتها و سعيها مهما كانت النتيجة مرتفعة!
هل يبدو الأمر متناقضًا ومثير الدهشة؟!
الحقيقة أن الدهشة تزول عند معرفة مشكلة وهم ” الكمالية” أو “perfectionism”..
في هذه المقالة التي بالضرورة سيعتريها بعض “النقصان” سألقي الضوء على ” الكمالية”.
تعريفها وأثرها على الصحة النفسية و أسبابها و علاجها.
ماهي “الكمالية” و ما أثرها على الصحة النفسية؟
الكمالية في علم النفس سمة شخصية، يسعى من خلالها الشخص إلى بلوغ الكمال، ووضع معايير عالية جداً لنفسه و للآخرين و يصحبها تقييمات نقدية مبالغ فيها. ورفض لأى مسعى أقل من الكمال ونقده وعدم الشعور بالرضا تجاهه.
هل الكمالية ضارة على الصحة النفسية ؟
على الرغم من عدم اعتبارها اضطرابا نفسيًا في حد ذاتها ،
إلا أنّها عامل شائع في العديد من الاضطرابات النفسية إذا لم يتم التعامل معها بشكل صحيح، لا سيما تلك الإضطرابات المرتبطة بالأفكار والسلوكيات.
و قد يؤدي السعي إلى الكمال إلى نتائج عكسية، مثل التسويف والميل إلى تجنب التحديات.
فإما الوصول إلى المسعى بالصورة الكاملة أو تركه بالكلية
فيما يُعرف بالتفكير الجامد ” كل شيء أو لا شيء” مثلا
إن أردت الوصول إلى وزن مثالي معين في وقت محدد ووجدت نفسك لم تصل إليه ولكنك خسرت الكثير من الوزن، لا تلغي هذا الإنجاز بتفكير جامد إما ” كل شيء أو لا شيء” ..
أما على صعيد الصحة النفسية فقد يؤدي إلى الاكتئاب والقلق واضطراب الوسواس القهري
واضطرابات الأكل
وفي أسوأ الأحوال يمكن أن يكون عامل موصّل إلى اضراب ثنائي القطب؛ ذلك لانه يعيش في عالمين مبتعدين للغاية عن بعضهما البعض “المثالي والواقعي” فقد يكون أكثر تعرضا لاضراب ثنائي القطب أو الإنتحار..
ما أسباب انتشاره :
اولا :الانتشار الواسع لوسائل التواصل الإجتماعي وتطبيقات تعديل الجسم والشكل :
لعبت تلك الوسائل دورا كبيرا في نشر صور مثالية عن الآخرين، عن شكلهم وو ظائفهم وغيرهما وليس هذا فقط بل أيضا علاقاتهم بأبنائهم وازواجهم و أصدقائهم كلها مثالية..
قد لا يكون واقع الأمر هكذا دائما، ولكن بطبيعة الحال الكل يحب أن يظهر مثالي.. في الواقع لن تضع إحداهن لقطة وهي غاضبة من أبنائها ولكن بالتأكيد ستضع لقطة وهي تختضنهم أو تجلس بجوار زوجها في صورة لطيفة مثالية ، كما أن انتشار تلك التطبيقات المعدِّلة تتيح للمستخدم تغيير كل ما لا يعجبهفي شكله لتظهر صورته في النهاية برّاقة ومثالية بلا شوائب أو هالات..
بالتأكيد الكل يعرف ان الواقع ليس بهذه المثالية لكن تعرضك اليومي لكل تلك الصور المثالية يمكن إن يؤثر على رؤيتك لنفسك بالسلب وشعور بالنقص مقارنة بوهم الكمال المنتشر .
ثانيا:الكمالية الناتجة من ضغط المجتمع :
اشتراط المجتمع للمثالية على الفرد لقبوله أو الرضا عنه و تحديد قيمته كفرد بمقدار مثالية وكمالية ما ينتجه.
مثال الضغط على الصغار للحصول على العلامات النهائية وربط ذلك ليكونوا جيدين ومحبوبين..
ثالثا :الكمالية الناتجة من بعض الأفكار الخاطئة لدى الفرد مثل :
١_” الكل أو لا شيء “: وهي ان تتم أي شيء على الوجه الأكمل والأمثل وإما فلا قيمة لأي شيء دون ذلك وعدم تقدير أي فعل أقل من درجة الكمال.
٢_” تحديد قيمة عملك بما تنتجه وليس بمسعاك” عندما نفكر في قيمة ما نعمل بمقدار النتيجة المحققة منه وليس بمقدار سعينا نقع في وهم الكمال وعدم الرضا بمسعانا..
٣_”أبيض أو أسود” : يمكن أن يعتري بعض أعمالك النقصان لكن هذا لن يجعلها سوداء تماما. هناك ألوان كثيرة بين الأبيض والأسود.. متطلب الكمال يقع في خطأ ان يصنف إنجازاته بيضاء أو سوداء ولا شيء بينهما.. مثلا ان خططت للحصول على درجة معينة وحصلت على درجة اقل منها بعض الشيء هذا لايعني ان درجاتك سوداء وليس لها قيمة..
كيف يمكنك التغلب على الكمالية؟
يمكن التغلب عليها عن طريق العلاج المعرفي السلوكي و إدراك و معرفة بعض الإمور منها:
اولا :استخدام الحديث الذاتي الرحيم أن تخبر نفسك أنه لا بأس لو عثرت خطاك حتى تعرف السددا وأن لا بد من الخطأ لتعلم الصواب كالطفل الذي يتعلم المشى فيتعثر ولولا تعثره لما تعلم الحركة..
و إن كنتم آباء ، فلاتقل جمل شرطية لابنك مثل انك ستحبه ان حصل على درجة ما ولكن استخدم الأسلوب الرحيم معه و علّمه ان يقدر سعيه وقدّره انت كذلك..
ثانيا : إدراك أن المسعى في ذاته مجديًا ويستحق التقدير أيًا كانت نتيجته وأن المسعى ليس بالضرورة ان يكون ناتجه كما خُطط له كالصياد الذي يحمل عدّته ويذهب في الغابات وقد يصيد الغزالة أحيانا ولا يفلح أحيانا وهذا لا يقلل من تقديره لعمله وسعيه
“وما كل من يسعى يصيد غزالة ولكن من صاد الغزالة قد سعى” ولكن في كلا الحالتين السعي هو الأمر ذو القيمة والتقدير..
ثالثا :
معرفة أنه لولا النقصان فينا وفي الأخرين لما تكاملنا سويا و لما احتاج بعضنا البعض؛ ففي العلاقات قبول نقص شريك في أمر ما وقبوله بدوره لنقصك في شيء آخر هو سر اكتمال العلاقة بينكما. وادراك ان الصور المثالية للعلاقات ليست واقعية و سيعتريها بالضرورة بعض النقص والتخبط والأخطاء.
رابعا : يُنصح بالإبتعاد عن وسائل التواصل من آن لآن وعدم تعريض نفسك لصور مثالية بغزارة..
هل قبول النقص والضعف البشري يعني الرضا بالأخطاء وعدم محاولة تغييرها ؟
قبول النقص وترك وهم الكمال يعني ببساطة الرضا بحدوث النقصان والأخطاء أثناء سعيك مع محاولة تحسينه إن أمكن ومواصلة السعي؛ فهو ضروري لسلامة مواصلة السعي بصحة نفسية جيدة وإنشاء علاقات مبنية على التكامل وليست على وهم المثالية..
ببساطة لنتخيل ان قبولنا لنقصنا سينتج عنه ترْصيع بكثير من التجارب الذهبية ومحاولات السعي المختلفة الثمينة التي لم تكن لتحدث لولا ذلك النقص؛ وكما سينتج عنه احتياجنا لنتكامل مع الآخرين الذين بالضرورة سيعتريهم بعض النقص هم كذلك..
فأنت ناقص تكتمل بالآخر والآخر ناقص يكتمل بك و هذا جميل كجمال اكتمال لوحة فوسيفسائية..
ولولا ذلك لاستغنى الناس عن الناس وعن المحاولات والتجارب والمساعي!
وما كان لرحلتهم في الحياة معنى ولا طعم ولا لون
وقديما قالوا “الكنز في الرحلة”..
و “من لم يجرب ليس يعرف قدره”
دمتتم بخير!
المصادر: