تأخذ ثقافة إلقاء اللوم على الضحية أشكالاً كثيرة، وتكون في كثير من الأحيان مبطنة وغير مباشرة، وكثيراً ما نراها في حالات الاغتصاب والاعتداء الجنسي، ولكنها قد تظهر أيضاً في حالات الجرائم الأكثر بساطة، مثل تعرض شخص للنشل أو السرقة ومن ثم إلقاء اللوم عليه لأنه كان يضع محفظته في جيبه الخلفي، ولكن بشكل عام، في كل مرة يقوم فيها أي أحد بالتساؤل عما كان بإمكان الضحية القيام به بشكل مختلف لمنع حدوث الجريمة، فإن ذلك الشخص يشارك، إلى حد ما، في ثقافة إلقاء اللوم على الضحية.
في حين أن ثقافة إلقاء اللوم على الضحية ليست ثقافة منتشرة عالمياً بشكل طاغٍ (حيث أن تجارب بعض الأشخاص، وخلفيتهم، وثقافتهم تجعلهم أقل احتمالاً لاتباع ثقافة لوم الضحية)، إلّا أن هذا الفعل في بعض النواحي، يكون رد فعل نفسي طبيعي للجريمة، فالشخص الذي يتبنى ثقافة إلقاء اللوم على الضحية لا يوجه اتهاماً صريحاً للشخص بأنه قد فشل في منع حدوث ما حدث له، بل في الواقع، فإن الأشخاص الذين يقومون بهذا قد لا يدركون دائماً بأنهم يفعلونه بالأساس، فببساطة، سماعك عن جريمة وتفكيرك بأنك قد تكون أكثر حذراً إذا ما كنت في مكان الضحية هو شكل خفيف من أشكال إلقاء اللوم على الضحية.
تبعاً لـ(شيري هامبي)، وهي أستاذة في علم النفس في جامعة سواني، فإن أكبر عامل من العوامل المشجعة على ثقافة إلقاء اللوم على الضحية هو ما يسمى بفرضية العالم عادل، وهي فكرة تقول بأن الأشخاص يستحقون ما يحدث لهم، حيث يبدو بأن هناك حاجة قوية حقاً لكي نعتقد بأننا جميعاً نستحق النتائج والعواقب التي تصيبنا.
توضح (هامبي) بأن هذه الرغبة في رؤية العالم كمكان عادل ونزيه قد تكون أقوى بين الغربيين، الذين تثيرهم فكرة بأننا جميعاً نمتلك السيطرة على مصائرنا، في حين أنه وفي الثقافات الأخرى، فقد يعترف بعض الأشخاص، في بعض الأحيان بسبب الحرب أو الفقر أو ربما بسبب الإيمان الراسخ بتحكم القدر بهم، بأن هناك أموراً سيئة تحدث في بعض الأحيان للأشخاص الطيبين.
إن تحميل الضحية مسؤولية الحدث السيء الذي وقع، قد يكون –جزئياً- وسيلة لتجنب الاعتراف بإمكانية حدوث شيء لا يمكن تصوره.
غالباً ما تجلب فكرة إلقاء اللوم على الضحية إلى الأذهان جرائم مثل الاعتداء الجنسي أوالعنف المنزلي، إلّا أن الأمر ينطبق على جميع أنواع الجرائم، فبحسب (باربارا جيلين)، أستاذة الخدمة الاجتماعية في جامعة ويدنر، في الوقت الذي يميل به الأشخاص عادة لتقبل الكوارث الطبيعية كأمر لا مفر منه، فإن الكثيرين يرون بأنهم يمتلكون المزيد من السيطرة إذا كانوا مكان ضحايا للجرائم، وأنه بإمكانهم اتخاذ الاحتياطات التي من شأنها حمايتهم، لذلك، فإن بعض الأشخاص يجدون صعوبة في قبول أن ضحايا هذه الجرائم لم يساهموا في يتحمل بعض المسؤولية عن الأذية التي أصابتهم.
تشير (جيلين) بأن الأشخاص عادة ما يلومون الضحية كي يتمكنوا من يثبتوا شعور الأمان الذي ينتابهم، حيث أن هذا يساعدهم على الشعور بأن الأشياء السيئة لن تحدث لهم أبداً، فبالتأكيد كان هنالك أسباب جعلت الطفل الذي يسكن في آخر الشارع يتعرض للاعتداء، ولكن هذا لن يحدث أبداً لأطفالهم لأن والد الطفل المغتصَب لا بد وأن يكون قد فعل شيئاً خاطئاً.
تضيف (هامبي) بأنه حتى أكثر الأشخاص طيبة يساهمون أحياناً في تعميق ثقافة إلقاء اللوم على الضحية، فالمعالجين الذين يعملون في برامج الوقاية على سبيل المثال، يحاولون دائماً إعطاء التوصيات للنساء حتى يتوخين الحذر ويتجنبن الوقوع ضحية لجريمة ما، ولكن الشيء الوحيد الذي يضمن عدم تعرض أحد لجريمة ما هي أن لا يغادر منزله مطلقاً.
قامت كل من (لورا نيمي)، وهي زميلة ما بعد الدكتوراه في علم النفس في جامعة هارفارد، و(ليان يونغ)، أستاذة في علم النفس في كلية بوسطن، بإجراء بحوث تأملان بأن تعالج ظاهرة إلقاء اللوم على الضحية، وقد أظهرت أبحاثهما التي شملت 994 مشاركاً وأربع دراسات منفصلة، عدة نتائج هامة، أولها أنهما لاحظتا بأن القيم الأخلاقية تلعب دوراً كبيراً في تحديد احتمال مشاركة الشخص في سلوكيات إلقاء اللوم على الضحية، مثل تقييم الضحية بأنها “ملطخ بالعار” بدلاً من كونه “ضحية إصابة”، وبالتالي وصم هذا الشخص بالعار لأنه كان ضحية لجريمة ما، وقد حددت كل من (نيمي) و(يونغ) مجموعتين أوليّتين للقيم الأخلاقية، وهما القيم الملزمة والقيم التشخيصية، وفي حين أن الجميع لديه مزيج من الاثنين، يبدو بأن الأشخاص الذين يظهرون قيماً ملزمة أقوى يكونون أكثر ميلاً لحماية المجموعة أو للعمل نحو تحقيق مصلحة الفريق ككل، في حين أن الأشخاص الذين يمتلكون قيماً تشخيصية أقوى يكونون أكثر تركيزاً على تحقيق العدل ومنع الضرر عن الأفراد.
توضح (نيمي) بأنه كلما كان الشخص يمتلك قيماً ملزمةً أكثر كلما كان تبنيه لمواقف وصم الضحايا بالعار، سواء بالنسبة للجرائم الجنسية أو غير الجنسية، حيث أن الأشخاص الذين يفضلون القيم الملزمة أكثر عرضة لرؤية أن اللوم يقع على الضحايا، بينما يظهر الأشخاص الذين يتبنون القيم فردية أكثر تعاطفاً مع الضحايا.
في دراسة أخرى، قدمت كل من (نيمي) و(يونغ) للمشاركين مقالات قصيرة تصف جرائم افتراضية، مثل: “تقربت ليزا في حفلة من دان، وخلال الحفلة قدم دان شراب لليزا يحتوي على دواء مخدر، وفي وقت لاحق من تلك الليلة، تعرضت ليزا للاعتداء من قبل دان”، بعد ذلك قامت الباحثتان بسؤال المشاركين عن الأشياء التي كان بالإمكان تغييرها في الأحداث للحصول على نتيجة مختلفة.
بشكل طبيعي، كان المشاركون الذين يمتلكون قيماً ملزمة أقوى أكثر احتمالاً لتحميل المسؤولية عن هذه الجريمة للضحية أو اقتراح إجراءات كان يجب على الضحية اتخاذها كي تغير من النتيجة، في حين كان الأشخاص الذين يمتلكون قيماً فردية أقوى أكثر ميلاً لفعل العكس، ولكن عندما قامت الباحثتان بالتلاعب ببعض الكلمات في المقالات القصيرة، حصل شيء مثير للاهتمام.
قامت كل من (نيمي) و(يونغ) بالتلاعب ببنية الجملة في المقالات القصيرة، حيث قامتا بتغير الشخص الذي أقدم على الخطوة الأولى، الضحية أو الجاني، وبذلك أصبحت الجملة في بعض المقالات القصيرة تقول (تقرب دان في حفلة من ليزا)، وفي بعض المقالات الأخرى (تقربت ليزا في حفلة من دان).
عندما أصبح مرتكب الجريمة هو الفاعل في الجملة، انخفض تصنيف لوم الضحية لدى المشاركين بشكل كبير، حيث أشارت (نيمي)، بأنه عندما تم الطلب من المشاركين بأن يقترحوا سيناريوهات كان يمكن للضحية القيام بها لتغيير هذه النتيجة، كان من الصعب على المشاركين الخروج بأفكار تحوّل من الموقف، وانخفض تركيزهم الذي ينصب سلوك الضحية بشكل عام، وهذا يمكن أن يوحي بأن تقديم مثل هذه الحالات يمكن أن يغيّر من طريقة تفكير الأشخاص حول الضحايا.
بحسب (جيلين)، فعلى الرغم من أن الأشخاص عادة ما يكونون أكثر تعاطفاً مع الضحايا الذين يعرفونهم جيداً، فإن القراءة عن جريمة في وسائل الإعلام يمكن أن تزيد في بعض الأحيان من تعميق اتجاه إلقاء اللوم على الضحية، فالضحايا الذين يقرأ الأشخاص عنهم في وسائل الإعلام عادة ما يكونون غرباء عنهم، وهذه القصص يمكن أن تؤدي إلى أن التنافر المعرفي بين الاعتقاد الراسخ بعدالة الكون والدليل الواضح على أن الحياة ليست عادلة دائماً، كما أنه في حال تركزت التغطية الإعلامية على تجربة الضحية وروايتها –حتى ولو تم تناولها بطريقة متعاطفة- فإن تجارب (نيمي) و(يونغ) تشير إلى أن هذا قد يزيد من احتمال إلقاء اللوم على الضحية، في حين أن القصص التي تركز على مرتكب الجريمة، يمكن أن تكون أقل عرضة لاستفزاز ردات الفعل تلك.
إن هذه النتيجة قد تكون مثيرة جداً للإهتمام، فهي تشير إلى أن رغبتنا في التعاطف والتركيز على الضحايا، قد تجعلنا نركز عليهم وعلى ما فعلوه بشكل أكثر من اللازم، وإهمال التركيز على مرتكب الجريمة وما كان يجب أن يقوم به بشكل مختلف.
في الأساس، يمكن لثقافة إلقاء اللوم على الضحية أن تكون نابعة عن مزيج من عدم القدرة على التعاطف مع الضحايا وعن الخوف الناجم عن الرغبة البشرية في الحفاظ على الذات، وهذ الخوف بالذات قد يكون من الصعب على الجميع السيطرة عليه، ولكن إعادة تدريب هذه الغريزة هو أمر ممكن، ولكنه ليس سهلاً، حيث تؤكد كل من (هامبي) و(جيلين) على أهمية التدريب على التعاطف والانفتاح على رؤية (أو على الأقل محاولة رؤية) العالم من وجهات نظر أخرى، حيث أن هذا سيساعد الأشخاص على تجنب الوقوع في فخ التكهنات حول ما كان يمكن للضحية القيام به بشكل مختلف لتجنب الجريمة.
يشير (نيمي) إلى أن العودة إلى أصول المشكلة قد يؤدي إلى إعادة صياغة الطريقة التي نفكر بها حول الجاني والضحية، ولا سيما في حالات الاغتصاب.
قد يكون من الصعب، وخاصة بالنسبة للأشخاص القريبين من الجاني، التوفيق بين حقيقة أن ذلك الشخص الذين يعرفونه جيداً ويرونه على أنه شخص جيد، يمكن أن يرتكب جريمة يرونها وحشية جداً، وفي بعض الحالات، قد يؤدي هذا إلى الإفراط في التعاطف مع مرتكبي الجريمة والتركيز على إنجازاتهم أو سماتهم الأخرى، وهذا نوع آخر من آليات الدفاع، تلك التي تدفع بالأشخاص المقربين من الجاني إما لإنكار ما حدث أو التقليل من فداحة ما حدث من أجل تجنب التعامل مع العملية المعرفية الصعبة وقبول أنه كان قادراً على فعل شيء من هذا القبيل.
بغض النظر عما نريد تصديقه، فإن العالم ليس بالمكان العادل، والأمر يحتاج إلى بعض العمل المعرفي الصعب لقبول أن الأشياء السيئة يمكن أن تحدث في بعض الأحيان للأشخاص الطيبين، وأن الأشخاص الذين يبدون بأنهم عاديين قد يفعلون أشياء سيئة في بعض الأحيان.