إنّه صباح يوم الثاني من أبريل، وهو اليوم نفسه الذي أعلنت فيه منظمة الأمم المتحدّة اليوم العالمي للتوعية بالتوحد، ومن المقرّر أن أقوم بزيارةٍ إلى أكاديمية ريناد، وهي مدرسة متخصصة بتوفير الخدمات التعليمية للأطفال ذوي التوحد. وقد اتخذّت أكاديمية ريناد اسمها من زهرةٍ تنمو في بيئتنا الصحراوية القطرية.
صائمةٌ أنا ومتعبة بسبب قلّة ساعات النوم في ليالي رمضان المباركة التي نُحييها حتى الفجر. وصلتُ مُنهكةً إلى أكاديمية ريناد وفي ملامحي بعضًا من الشحوب. لكنّ فورَ دخولي صفوف الروضة بالأكاديمية: ارتفع مستوى الطاقة في عروقي.
الأطفال منشغلون بهواياتهم، يملؤون كل مساحات الفصل، ولا يكادون يستمعون إلى معّلمهم الذي حاول تنبيههم بوجود ضيف غريب في فصلهم. تجنّب البعض منهم النظر إلينا، فيما استقبلنا آخرون بنظرات فضولية بريئة.
اخترتُ كرسياً صغيراً من كراسيهم، وجلستُ بين طالبين، لعلّي أنجحُ في إشراكهما معي بالمحادثة. وكانت هيا الأكثر انفتاحًا بينهما، إذ شاركتني اهتماماتها فوراً، ولعبتها المفضّلة أيضاً، وحتى تفاحتها. لقد أَسرَت هيا قلبي بغفلةٍ، وارتفع مستوى الطاقة لديّ بثواني. سألتُها عن رغبتها بالانضمام إليّ في جولة داخل الأكاديمية، لم تتردّد، ومسكت يدي ببساطة، ووقفت على أهبّة الاستعداد لننطلق معاً في جولة داخل أكاديمية ريناد.
منذ فترة وجيزة، كان الوعي باحتياجات الأطفال ذوي التوحد حول العالم مثل هيا وزملائها في الصفّ ضعيفاً، وقد عُوملتْ أول حالة بطريقة تقليدية، عندما أُرسل الأمريكي دونالد تريبليت، وهو أول طفل شُخِّصتْ حالته آنذاك بالتوحد، إلى مؤسسة تربوية خاصة، لأن أُسرته لم تتمكن من فهم سلوكياته وخصوصياته، وإن كانت قصّته قد تحوّلت إلى مصدر إلهام وسعادة لمَن حوله، إلا أنه مع الأسف لم يكن هذا حال الكثيرين حول العالم.
تحثّنا مبادئنا الإنسانية على اكتشاف القدرات التي يمتلكها ذوو التوحد، إلا أنّ مجتمعاتنا تحاصر قدراتهم، وتضعهم في مقارنة تعتمد معايير وتصورّات هامشية، ولأن قدرتهم على اللعب والإنجاز مختلفة عن أقرانهم بسبب التوحد، لم يُسمح لهم بالدخول إلى ساحة اللعب حيث تعرّض العديد منهم للتنمّر، وحُرموا من تلقّي التعليم الشامل، ومن المشاركة في أنشطة تعليمية وترفيهية خارج المناهج الدراسية، وتُركوا إلى مصيرهم في حياة كانت مليئة بإمكانات لم يستفيدوا منها، وجُرّدوا من فرصتهم في الإسهام ببناء مجتمعاتهم.
لهذه الأسباب، افتتحنا مركز الشفلح للأشخاص ذوي الإعاقة عام 1999، وأكاديمية ريناد عام 2016، وأطلقنا العديد من البرامج المتخصصة التي تُعنى بتلبية احتياجاتهم. ومن هذا المنطلق أيضاً، اقترحنا عام 2007 على الأمم المتحدة تخصيص يومٍ عالمي للتوعية بالتوحد، ومضينا قدماً في جهودنا، لتكون قطر الدولة المضيفة الأولى لبطولة كأس العالم لكرة القدم التي وفرّت غرفاً حسية مخصصة لذوي التوحّد، وتجاوزنا هذا التحدّي في ملاعبنا.
وقد جاءت هذه المساعي استكمالاً لجهود دولة قطر ضمن الخطة الوطنية للتوحّد التي أُطلقت عام 2017، ووضعت إطاراً شاملاً ومتكاملاً، فما أن تُشخّص حالة التوحد، يتحقق التواصل بين أُسرة الطفل ومختلف الجهات المعنية التعليمية والصحية والاجتماعية، وذلك من أجل ضمان حصولهم على الدعم والمساندة، وإرشادهم إلى المرافق والخدمات المتوفرة هنا.
اقرأ ايضا: تغطية خاصة لمؤتمر تيد بالعربي على مجلة نقطة العلمية
ولطالما آمنّا أنّ التدخل المبكر هو الأساس لإحداث التغيير الإيجابي ولبناء المستقبل الذي نتطلع إليه، وهذا ما نسعى إلى تحقيقه في دولة قطر. وكدولة صغيرة الحجم من حيث المساحة الجغرافية والتعداد السكّاني، نمتلك القدرة على توثيق الروابط وتطويرها بين مزّودي الخدمات الصحية في التشخيص والعلاج والدعم، وإجراء البحوث والتحليلات المبنية على الروابط الجينية، بما يُمكننا من توفير الدعم لذوي التوحد ومتابعتهم في كلّ مراحل حياتهم.
ولهذه الغاية، نعمل اليوم على تطوير برنامج متكامل يشمل التعليم والبحوث والرعاية الصحية البدنية والنفسية والبحوث الجينية بغيةَ استكشاف جينات جديدة ورؤى علمية مستنبطة من الخصائص السكانية بما يُمهِّد الطريق لاعتماد استراتيجيات مبتكرة وفاعلة في التدخل المبكر، بالإضافة إلى عملنا المستمر مع الباحثين للاستفادة من تقنيات الذكاء الاصطناعي المتقدّمة، وتقنيات الاستشعار الحديثة، وتحقيق الرصد عن بُعد، وإجراء التقدير الكمّي لعدد الأطفال ذوي التوحد.
وفي هذا السياق، تُشير الإحصائيات الحالية إلى أن نسبة الأطفال ذوي التوحد في مكان ما من هذا العالم هي 2%، والعدد في ازدياد. ويعود ذلك على الأرجح إلى استخدام تقنيات التشخيص الأكثر دقة. وفي قطر، تُشير البحوث إلى أنّ من بين كلّ 87 طفلاً، هناك طفل واحد من ذوي التوحد. لذا، من الضروري أن نضمن التشخيص المبكر للأطفال، لأنه سيساعدنا في توفير الفرص لهم للحصول على التعليم بما يُلبي احتياجاتهم الفردية.
التوحّد ليس مرضاً، إنما حالة يتعايش معها الإنسان طوال حياته، ويمكن التحكّم بمدى تأثيرها على حياتنا، إذا تقبّلنا الاختلاف وتكيّفنا معه. وإن إدراك قدرات طفلة مثل هيا وما تحمله في شخصيتها من مهارات يمثّل الخطوة الأولى نحو تمكينها لتستحقّ دورها ومكانتها الملائمة في مجتمعنا.
لقد رافقتني هيا أثناء ذهابي لحضور جلسة نقاشية مع خبراء ومتخصصين في هذا المجال، عقدناها بمناسبة اليوم العالمي للتوعية بالتوحد، حيث ناقشنا إنجازات دولة قطر والتحديات التي تواجهنا في تلبية احتياجات الأطفال ذوي التوحد مثل هيا، ودعم أولياء أمورهم، وكلّ من يتعاملون مع ذوي التوحد من معلّمين، وخبراء، ومرشدين.
ترددت هيا كثيراً في مغادرة القاعة قبل بدء الجلسة، لكنّ معلّمها أقنعها بالعودة إلى نشاطها المفضل داخل الفصل الدراسيّ وهو التلوين. هيا الصغيرة محظوظة لأن حالتها شُخّصتْ بمرحلة مبكرة، وهي حريصة على الذهاب إلى مدرستها التي صُممت بعناية لها وللأطفال الآخرين ذوي التوحد، ولا أقول لأطفال “مثلها”، لأن كلّ طفل “مختلف” وكلّ طفل فريد من نوعه. وهذا ما تُجسده البيئة التعليمية في ريناد، حيث لا ضغوطات لتحقيق الإنجازات أو تحقيق التشابه. فطلبة هذه الأكاديمية لديهم الحرية الكاملة ليكونوا على طبيعتهم، لأن من يعتني بهم يُدرك حقوقهم بالانتماء إلى المجتمع.
وإذا كانت رحلة هيا وطلبة أكاديمية ريناد سلسة بحصولهم على التعليم والاهتمام في ملاذٍ آمن، فحال الكثير من الأطفال ذوي التوحد حول العالم ليست كذلك. لكنّ الاعتراف الأممي باليوم العالمي للتوعية بالتوحد سيُساعدنا في التخلّص من التصورّات الخاطئة المُخبّأة لدى مجتمعات كثيرة سواء في قطر أو مناطق أخرى في العالم. وأتمنى أن تستمدّ بعض الأُسر من قصّة هيا، ومن الإعلان الأُممي، الشجاعة لاستكشاف أفضل المهارات التي يتحلّى بها أطفالهم، وأن لا يكون خيارهم هو إنكار حقيقة أن طفلهم “مختلف”.
لقد كان احتضان هيا، بالنسبة إليّ، شيئاً مميزاً للغاية. ولن يكون حلمي بأنْ تفوز هيا وجميع الأطفال ذوي التوحد والمصابين بأيّ شكل من أشكال التنوع العصبي، وإنما أن يُسمح لهم بالدخول إلى ساحة اللعب، جنباً إلى جنب مع غيرهم من الأطفال، حيث يهتف لهم آباؤهم وإخوانهم وأخواتهم وكل أفراد أسرتهم، والمعلمون والمشجعون الذين من يحتاجون إلى دعمهم.
لكلّ طفل الحقّ في أن يُعامل بكرامة، وأن يتعلّم، وأن يُطلق إمكاناته الكامنة كلها.