كشف علماء الآثار قبل أيام، بأن عمر إحدى المستحاثات (اثار بشرية متحجرة) النادرة، التي عُثر عليها في المملكة العربيّة السعوديّة، يبلغ 86 ألف عامٍ على الأقل!
وقد تمّ العثور على المستحاثة التي تمثّل عظم إصبعٍ بشريٍّ عام 2016، في صحراء النفود التابعة لمنطقة الوسطى في المملكة العربية السعودية، وصنّفت كأقدم اكتشافٍ أثريٍّ على الإطلاق، خارج منطقة إفريقيا والشريط الضيق الذي يصل إفريقيا بآسيا.
ويشير هذا الاكتشاف إلى أن منطقة شبه الجزيرة العربيّة كانت وجهةً رئيسيةً للرحلات الاستكشافية في العصر الحجري، من إفريقيا نحو آسيا، وهي الرحلات التي سمحت للبشر بالانتشار السريع في آسيا، وعزّز فكرة أن الانتشار البشري المبكر من إفريقيا -والذي امتد في عمق شبه الجزيرة العربية- بدأ قبل وقت المغادرة الافتراضي الذي كان يعتقد سابقًا وهو 60 ألف عام، وذلك بحسب ما أفاد به عالما الآثار: هاو غروكوت ومايكل بيتراليا لمجلة Nature Ecology & Evolution، في 9 أبريل/نيسان الجاري.
ويصرّح بيتراليا، الباحث في معهد ماكس بلانك لعلوم التاريخ البشري في جينا بألمانيا:
“على الرغم من اعتبار شبه الجزيرة العربية بعيدةً عن المرحلة الأساسية للتطور البشري، إلا أنّها كانت نقطة انطلاق من إفريقيا نحو آسيا.”
ويردف: “علينا أن لا ننخدع بالصحارى الشاسعة التي تغطّي شبه الجزيرة العربية اليوم، حيث تشير الأدلة الجيولوجية إلى أنّ الوسطى كانت منطقةً مفعمةً بالحيوية وصديقةً للإنسان قبل نحو 86 إلى 95 ألف عامٍ خلت، وهو المجال العمري التقديري لمستحاثة إصبع الإنسان التي عثر عليها”.
وقد استخدم فريق البحث تقنية التأريخ المباشر باستعمال اليورانيوم المشع، لتحديد عمر هذه المستحاثة، ومعها أخرى مجاورةٌ تمثّل سنّ فرس، وهي طريقةٌ لم تكن ممكنةً قبل سنواتٍ قليلة، وتعدّ أكثر وثوقيّةً من التأريخ المستند إلى مواد من الموقع الأثري المحيط، كما تمّ الجمع بين هذه النتائج، مع قياس نسبة التعرّض لجرعاتٍ طبيعيةٍ من الإشعاع في السن، فيما قدرت تقنيةٌ أخرى التاريخ الذي تمّ فيه دفن عظم الإصبع والاكتشافات المجاورة عن طريق الرواسب.
ويعتقد غروكوت -الباحث في جامعة أكسفورد- أن المستحاثة تمثّل عظم السلاميّة الوسطى للإصبع الوسطى لشخصٍ بالغ، ولكنه لا يجزم ما إذا كان العظم يعود لرجلٍ أو امرأة، وهل يعود إلى اليد اليمنى أو اليسرى؟ ولكنّ المؤكّد أنّه إصبع إنسان.
ولتحديد عمر المستحاثة بدقّة، قارن الباحثون صورةً ثلاثية الأبعاد لها مع عظامٍ مماثلةٍ أُخذت من بشرٍ وقردة، وكذلك مع عيّناتٍ أخرى مأخوذةٍ من بشر قدماء وآخرين بدائيين، وقد تلاءمت المستحاثة مع جدولٍ زمنيٍّ تقريبيٍّ لأناسٍ عاقلين غادروا إفريقيا في العصر الحجري، ليصلوا إلى بلاد الشام قبل نحو 194 ألف عام، وإلى شرقي آسيا قبل نحو 80 ألف عام، وإلى إندونيسيا وأستراليا قبل نحو 60 ألف عام.
وفي حين لا يزال موضوع انتقال البشر إلى الجزيرة العربية غامضًا، أشارت حصيلة الاكتشافات التي تعود إلى نفس الحقبة الزمنيّة في موقع الوسطى، والتي بلغت 380 أداةً حجريةً و 860 مستحاثةً لحيوانات غير بشريةٍ إلى جانب الإصبع، بأن بعض هذه الحيوانات -بما في ذلك الفرس والغزال- نشأت في إفريقيا ولم تعد تقطن شبه الجزيرة العربية.
ويفترض بيتراليا بأن المجموعات القديمة من الصيادين وجامعي الثمار لحقت بهذه المواشي، من شمال إفريقيا إلى شبه الجزيرة العربية، حيث لعبت التقلبات المناخية دورها في تحويل الصحارى إلى أراضٍ عشبيةٍ ببحيراتٍ وأنهار، وعندما جفت تلك المظاهر الطبيعية قبل نحو 20 ألف عام، عاد ساكنوها أدراجهم إلى إفريقيا أو اتجهوا إلى آسيا.
وتعتقد ماريا مارتينون توريس، أخصائية علم الآثار القديمة ومديرة المركز القومي لأبحاث التطور البشري في بورغوس بإسبانيا، بأن المستحاثات البشرية القديمة التي عُثر عليها في الوسطى، مقترنةً بالأدوات الحجرية القديمة المماثلة الموجودة في مواقع أخرى من شبه الجزيرة العربية، تتحدّى وجهة النظر القائلة بأنّ البشر العاقلين غادروا إفريقيا في هجرةٍ واحدةٍ أو حتى في بضع هجراتٍ كبرى، بل انتقلوا –بحسب وجهة نظرها- وفق مجموعاتٍ صغيرةٍ وعديدةٍ إلى شبه الجزيرة العربية وما بعدها، انطلاقًا من 100 ألف عامٍ تقريبًا أو أكثر، وأن فترات زيادة هطول الأمطار وفّرت فرصةً ملائمةً للانتقالات البشرية إلى داخل شبه الجزيرة العربية.
وتختلف الأدوات الحجرية في موقع الوسطى في بعض النواحي، عن تلك التي عُثر عليها في بعض المواقع الأثريّة ببلاد الشام، ويفسر عالم الآثار دونالد هنري من جامعة تولسا بأوكلاهوما، تلك الاختلافات بأن السكان الأفارقة المتميزين ثقافيًا اتخذوا طريقًا جنوبيًا إلى شبه الجزيرة العربية، في حين كان بإمكان المسافرين من شرق إفريقيا، عبور قناةٍ بحريةٍ ضيقةٍ من القرن الإفريقي إلى الزاوية الجنوبية الغربية من شبه الجزيرة العربية، قبل التوجّه إلى منطقة الوسطى، بحسبما أشار هنري في تعليقٍ نشر في التقرير الجديد.
ويشكّك بيتراليا في هذا السيناريو، ويعتقد بأن البشر القدماء كان بإمكانهم –بسهولةٍ- أن يقتفوا أثر المواشي في وادي نهر النيل في منطقة الشرق الأوسط، ثم يتجهوا جنوبًا إلى شبه الجزيرة العربية، ويهيئوا وسائلهم للحياة الجديدة على طول الطريق.