قديما كان للنظريات العلمية مُنطلقات فلسفية ودينية حيث اعتمد تفسير الظواهر الحسية على أبعاد ما ورائية عكس النظريات العلمية الحديثة التي انحسرت في البعد المادي وركزت على دراسة قوانين المحسوسات. من هنا يمكننا أن نلمس القطيعة الجذرية بين العلم قديما وحديثا فنميز بين علم النفس الكلاسيكي الذي انطلق من ثنائية الروح والمادة، مُعتبرا النفس قبسا إلهيا وعلم النفس بعد أن دخل عالم التجريب وطُبقت عليه القوانين العلمية المجردة واجهت الإنسان مواجهة توحيدية ربطت من خلالها العوارض البيولوجية الجسمية بالكوامن النفسية.
من بين الإتجاهات التي ساهمت في هذا التّحول الجذري لأُسس الدراسات النفسية الإتجاه التحليلي والذي شاع أن نسمع أَنّ مُأسسه الطبيب النمساوي سيغموند فرويد الأمر الذي أنكره هذا الأخير بشيء من التواضع ناسبًا الفضل في بعث هذا الإتجاه للدكتور جوزيف برور(1) مضيفا أنه حينها لم يكن سوى طالبا منهمكا في تحضير امتحاناته الأخيرة. لكننا لا نستطيع إنكار دور فرويد في وضع إطار للنظرية وأساسا لدِراسة شخصية الإنسان سهّلت -رغم الإنتقادات التي وجهت إليها- الارتقاءَ بالدراسات النفسية.
لتسهيل استعراضِ أهمَّ ما جاءت به النظرية التحليلية يمكننا دراسة ثلاث جوانب هي: الجانب العلمي، الجانب التقني والجانب الفلسفي.
يكشف لنا الجانب العلمي أنّ الموضوع الأساسي لعلم النفس الكلاسيكي تمثل في دراسة الحياة الباطنية للإنسان باكتشاف جملة الأفكار والأحاسيس، حيث اعتمد علماء النفس قديما على حديث الشخص عن نفسه إما بصفة آنية أو بعد مرور التجربة .
أمّا الأولى فتسمّى منهجية الاستبطان الآني. تعرقل فعاليّة هذه المنهجيّة قضيّة وحدة الدارس والمدروس فمن البديهي أن الانسان مُلتصق بذاته وبالتالي هو أعلم بما يدور في خلجاته لكن ما يجب معرفته أن شخصية الإنسان تحوي قناعين: ما يبرز للعيان وما يعتمِل في دواخل النفس. فمن غير الممكن أن يُفلح الإنسان في إظهار الجانبين معا، مثال ذلك ما قاله كونت(2) : لا يمكنني أن أكون على شرفة وأرى نفسي مارا في الشارع .
إِزاء وطأة الإنتقادات الكثيرة التي وجهت لهذه المنهجية بعد ظهور التيار التحليلي تطوّر الإستبطان لينتقل من الأنيّة إلى الأفقيّة. هذه الأخيرة جعل تفاوتاً زمنياً بين التجربة وتحليلها.
يقوم الإستبطان الأفقي أساسا على الذاكرة، فإنِّي أحلل تجربتي النفسية من خلال ما تستجمعه ذاكرتي وهنا تعيقنا مشاكل أخرى، فالذاكرة نسبية لا تستقطب كل عناصر التجربة، بل لا تستبقي منها إلا الخطوط العريضة. وبالتالي فالاستبطان الأفقي نفسه عرضة لانتقادات عميقة إذ أنه يعتمد أرضية زئبقية وهي الذاكرة.
من هنا جاء تجاوز فرويد لعلم النفس الكلاسيكي وتقديمه لدراسة عن شخصية الانسان صورة تعاكس تماما النظريّات المعهودة حيث وضع تجديدا وسّع من خلاله ميادين علم النفس وأثبت أن الحياة النفسيّة تنقسم إلى جانبين : جانب شعوري وآخر لاشعوري .
…يتبع
الهوامش :
(1) الدكتور برور طبيب نمساوي مشهور بأشغاله حول التنفس و فيزيولوجية حاسّة التوازن
(2) أوغست كونت عالم إجتماع فرنسي يعتبر مؤسس الفلسفة الوضعيّة , له كتابات كثيرة في التأمل الفلسفي
المصادر :
– سيغموند فرويد , خمسة دروس في التحليل النفسي , دار المعارف
– سمير عبده , التحليل النفسي للمكاشفة الباطنيّة , دار علاء الدين , دمشق , 1994
Pascale Marsone-Zyto , comprendre la psychanalise , edition Les quatre – chemine ,paris , 2005
Sigmund freud , Abrégé de psychanalyse , presses universitaires de France , paris , 1949
مدارس علم النفس المعاصر(3): مدرسة التحليل النفسي- الجزء1
شارك المقالة