من منا لا تستهويه رائحة المخبوزات الطازجة والشهية عند المرور بجانب مخبز على الطريق؟ وكيف نصبح مرتبطين برائحة عطر معينة لتصير المفضلة لدينا دون غيرها؟ ليست العطور فقط التي تمتلك هذا التأثير، فإذا كنت من محبي القراءة، فبالتأكيد أنت من المعجبين برائحة الكتب الجديدة! وماذا عن رائحة السيارات الجديدة، أو رائحة المواليد والأطفال، أو رائحة الهواء بعد المطر؟ السؤال الأكثر أهمية هو: ما هي الرائحة من الناحية العلمية؟ إنها شيء لا نستطيع رؤيته أو سماعه أو لمسه، فما هي إذًا؟ هذا هو محور حديثنا اليوم.
ما هي الرائحة؟

حيّر هذا السؤال العلماء لفترة طويلة، وبعد العديد من الأبحاث والدراسات حول طبيعة المواد ذات الروائح، توصل العلماء إلى أن الرائحة هي عبارة عن الجزيئات المتطايرة الصادرة من الأجسام لأسباب عديدة، ومنها اكتساب تلك الجزيئات طاقة كافية تمكنها من التبخر والتحرك في الهواء حتى تصل إلى المستقبلات الخاصة بالروائح داخل الأنف.
عندما تلتقط الأنف تلك الجزيئات، تتم معالجتها عن طريق إرسال الإشارات من وإلى الدماغ، مما يمكننا من التعرف على مصدر الرائحة. لذلك، يمكننا تخمين نوع الغذاء المطبوخ بمجرد شمه، وكذلك تمييز أنواع العطور عن بعضها البعض، والروائح الكريهة عن غيرها.
في الماضي كانت قدرة الإنسان على تمييز الروائح هي واحدة من أسباب بقائه! حيث كان الإنسان القديم يعتمد عليها في إيجاد الطعام وصيد الحيوانات. حتى الحيوانات تمثل لها حاسة الشم جزء كبير من أسباب بقائهم، فهم يستخدمونها في البحث عن غذائهم ويهربون فور ما يلتقطون رائحة الحيوانات المفترسة. ونحن البشر نستخدم حاسة الشم القوية لدى الحيوانات وتحديدا الكلاب في الحراسة والأمان عن طريق البحث عن المجرمين والمواد المخدرة والمتفجرة.
هل كل المواد لها رائحة؟
حتى تصدر رائحة من المادة لابد وأن تتمتع جزيئاتها ببعض الخواص حتى تستطيع المستقبلات الموجودة في الأنف من التقاطها، ومن تلك الخواص درجة التطاير وقابلية الذوبان في المياه. فحتى تصل الرائحة للمستقبلات فهي لابد وأن تكون لها درجة كافية من التطاير تمكنها من أن تنطلق من فوق الأسطح، وألا تكون عالية التطاير لدرجة أن تنطلق من على الأسطح بسرعة و لا تصل للمستقبلات.
إإذا نجحت الرائحة في الوصول إلى منطقة المستقبلات، سعين عليها لاحقًا الارتباط بها. ولعل ذلك، يجب عليها أن تجتاز المخاط الموجود بالأنف دون أن يتغير تركيبها أو تذوب فيه. ولكي يحدث ذلك، يجب أن تكون جزيئات الرائحة غير محبة للماء، أي غير قابلة للذوبان فيه. إذا اجتازت الرائحة كلا الاختبارين، ستصل بنجاح وترتبط بالمستقبلات الشمية، ثم يترجمها الدماغ إلى روائح مميزة. أما تلك التي لا تجتاز الاختبارات فتمر على الأنف بدون تمييز.
فتحتي أنفك لا تستقبل الروائح بنفس الطريقة!

وكأن الأمر يحتاج لأن يكون أكثر تعقيداً! حتى فتحتي أنفك قد تتعاملان مع الروائح بشكل مستقل. ففي إحدى الدراسات التي أجريت حديثًا، وجد العلماء أنه عند تعريض كل فتحة أنف لنفس الرائحة بالتبادل، ينتج نشاط دماغي غير متطابق! بالطبع يكون متشابهًا إلى حد كبير، لكن ما زالت هناك فروقات واضحة، وذلك جعل العلماء يرجحون أن الدماغ يجمع كل المدخلات الواصلة عن طريق فتحتي الأنف ثم يستخدمها في تكوين صورة كاملة في النهاية.
كل الدراسات والأبحاث المتعلقة بفهم حاسة الشم وتشريح الأنف لم تصل إلى فهم دقيق بنسبة 100% لهذه العملية المعقدة للغاية. حتى أننا حتى اليوم لم نستطع كبشر تصميم جهاز قادر على محاكاة عملية الشم، ونستعيض عنه باستخدام الحيوانات. هذا يجعلنا نقف أمام عظمة الخالق المتجلية في كل خلية من خلايانا، بشكل تعجز عقولنا البشرية عن استيعابه. فسبحان الله الخالق العظيم!