أصبح الذكاء الاصطناعي جزءاً لا يتجزأ من حياتنا اليومية وسط اعتراف متزايد بإمكان مساهمة هذه التقنية في تشكيل المعرفة الدينية واكتسابها. ولا شكّ أنّ الذكاء الاصطناعي يمكن استخدامه في تيسير الوصول إلى المعرفة ودعم الممارسات الدينية. لكن في المقابل، تُعدّ التبعات الأخلاقية الناجمة عن هذه الاستخدامات تحديًا رئيسيًا لا بُدّ من مناقشته تمهيدًا لمعالجته.
ينبع هذا التحدّي من “ضرورة تغذية نماذج الذكاء الاصطناعي بكميات هائلة من البيانات المختلفة بغرض تدريبه ومساعدته على التعلّم”، وذلك بحسب الدكتور مجد حواصلي، عالِم في تقنيات اللغة العربية في معهد قطر للحوسبة.

يوضح الدكتور حواصلي:”تُعدّ جودة البيانات المستخدمة ونقاؤها أمرًا بالغ الأهمية، وهذا يعني أن تكون هذه البيانات خالية تمامًا من أي تحيّزات فكرية أو مفاهيم خاطئة أو محتوى ضارّ، وذلك لضمان استجابة نماذج الذكاء الاصطناعي بأسلوب يتوافق مع القيم والمعايير الأخلاقية وتعاليم الإسلام”.
مع تأكيد الخبراء على ضرورة ضمان توافق نماذج الذكاء الاصطناعي التي تخدم الإسلام مع القيم الدينية، وأهمية ألاّ يعني هذا بأي شكلٍ الاستغناء عن البُعد الإنساني الذي لا غنى عنه في أمور الدين والإيمان، فإن توظيف الذكاء الاصطناعي في دعم الممارسات الدينية يفتح آفاقاً مثيرة للاهتمام.
في هذا السياق، يقول الدكتور حواصلي: “يُمكن للذكاء الاصطناعي أن يُثري عملية التعليم وأن يُساعد في تطوير التعلّم الديني وجعل الوصول إليه أكثر سهولة من قبل الراغبين بتنمية معارفهم”، وذلك من خلال أتمتة الذكاء الاصطناعي لعملية جمع وتلخيص كمّ هائل من النصوص الدينية وشروحها بما يعود بالنفع على الدارسين دون الحاجة إلى قضاء وقت طويل في البحث المكثف.
في نفس الوقت، حذّر الدكتور حواصلي من الاعتماد الكامل على الذكاء الاصطناعي كبديل عن العلماء، قائلًا: “مجرد فكرة استخدام نماذج الذكاء الاصطناعي كبديل عن العلماء هي فكرة خطيرة، فمن المهم للغاية أن يقتصر دورها على تيسير التعلّم وتنظيم المعرفة واسترجاع المصادر، في حين يبقى للعلماء دورهم المهمّ في تطبيق هذه المعرفة ببصيرة نافذة يدعمها فهمهم العميق للنصوص وإدراكهم للتوازنات الأخلاقية الدقيقة”.

من جهته، يؤكد الدكتور محمد غالي، أستاذ الدراسات الإسلامية وأخلاقيات الطب الحيوي في مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق، كلية الدراسات الإسلامية في جامعة حمد بن خليفة، على أهمية دور العنصر البشري في تفسير النصوص الدينية وترجمتها لأحكام وتعاليم توجه الأفراد والمجتمعات المسلمة نحو عيش حياة طيبة في الدنيا وتحصيل النجاة في الآخرة، مع تأكيده أيضًا على الإمكانيات التي يحملها الذكاء الاصطناعي في تيسير الوصول إلى المعرفة الإسلامية.
تساءل الدكتور محمد غالي: أين يقع الذكاء الاصطناعي في التسلسل الهرمي الأخلاقي الإسلامي أو ما يعرف بمراتب الموجودات في الكون؟ يأتي سؤال الدكتور غالي من تفنيد الذكاء الاصطناعي على أنه بعكس البشر هو مجرد كائن غير حيّ لا يتمتع بكرامة معنوية أو مكانة أخلاقية تماثل كرامة البشر.
يُجيب:” تم تصنيف الكائنات أو الموجودات في المعارف الإسلامية ضمن تسلسل هرمي أخلاقي، يتمتع بموجبه البشر بأعلى مكانة فيه، يليهم الحيوانات ومن ثم النبات. وتأتي الكائنات غير الحيّة في أسفل القائمة. وفق هذا التصنيف الهرمي، المتعارف عليه تاريخياً، من المفترض أن تندرج أنظمة الذكاء الاصطناعي والآلات الذكية في الفئة الأخيرة التي تحتل أسفل القائمة، بوصفها جمادات تفتقر إلى الكرامة الإنسانية وحتى الحيوانية. الإشكال الحديث هنا، هو أن هذه الآلات الجديدة تتمتع بدرجة من “الذكاء تُمكنها من محاكاة عمليات عقلية يقوم بها البشر أو ربما قد تتفوق عليهم في مجالات معينة. وبالتالي، صرنا أمام جمادات تظهر ملامح وخصائص ليس فقط في الفئات التي تعلوها في سلم ترتيب الموجودات من النبات والحيوان وإنما في الإنسان ذاته الذي يعلو قمة هذا الهرم”.
وفي حين كانت قدرة الذكاء الاصطناعي على توليد المعلومات واسترجاعها تقوم على البيانات والخوارزميات، إلا أنها تعجز عن فهم النصوص الدينية كما يفهمها العلماء. هنا تتولد تساؤلات أخرى ومنها إمكانية استخدام الذكاء الاصطناعي في الفقه الإسلامي والإفتاء.
وفيما أعرب الدكتور مجد عن قلقه من إمكانية استخدام الذكاء الاصطناعي في الإفتاء، مشيرًا إلى أن قدرة الذكاء الاصطناعي في فهم النصوص لا تعني قدرته على فهم السياق الشخصي والمجتمعي للمستفتي، والتبعات المحتملة للفتوى وما فيها من توازنات أخلاقية، يقول الدكتور غالي: “تُعدّ عملية الإفتاء في الأمور الشرعية مسألة في غاية الأهمية، نظرًا لارتباطها بالتكاليف الشرعية التي تمثّل جوهر العلاقة بين العبد وربه. وعند استخدام الذكاء الاصطناعي للإجابة عن الاستفسارات الدينية، لا بد من التمييز بين تيسير الوصول إلى المعلومات المدونة في الكتب الفقهية، وهو أمر يمكن لأدوات الذكاء الاصطناعي أن تساهم فيه، وبين أمانة التكليف، سواء من حيث قيام المفتي بترجمة هذه المعلومات إلى توجيه محدد يناسب حالة معينة، أو من حيث مسؤولية المستفتي في الالتزام بهذا التوجيه وتطبيقه، وهي أمور تخرج عن نطاق عمل أدوات الذكاء الاصطناعي. وبناءً على ذلك، ستظل الحاجة إلى العنصر البشري قائمة، ليس فقط من أجل الإشراف على كيفية توظيف نماذج الذكاء الاصطناعي في الفتوى لضمان صحة المعلومات ودقتها، ولكن بشكل أكبر فيما يتعلق بالتكاليف الشرعية، التي لا مجال للآلة فيها.”
بالإضافة إلى ذلك، فإنّ الذكاء الاصطناعي يفتح مجالات واسعة في محاكاة الممارسات الدينية مثل: تعليم الأطفال أداء الصلاة أو مناسك الحج وتلاوة القرآن بالشكل الصحيح حيث يمكن للذكاء الاصطناعي توفير أدوات تفاعلية توجه المستخدمين من خلال الحركات الجسدية وكيفية التلاوة. مع ذلك، يوضح الدكتور غالي أن دعم الذكاء الاصطناعي للممارسات الدينية لا يُمكنه أن يحلّ محلّ العنصر البشري، قائلًا:” لا يمكن للآلات أن تحل محل البشر عندما يتعلق الأمر بأداء الشعائر الدينية أو الطاعات وأعمال العبادة عموماً”.
تابع: “يمكن للذكاء الاصطناعي المساعدة في التدريب والمحاكاة، لكنّ أداء الواجبات الدينية والشعائر التعبدية، مثل الصلوات الخمس المفروضة، جزء من التكاليف الشرعية التي خصها الله تعالى بالإنسان المكلف وحده، دون غيره من الكائنات الموجودة في عالم الشهادة الذي نعيشه ونحياه، بما ذلك الآلات، حتى وإن وصفناها بالذكية”.
مع التطور المستمر في مجال استخدام الذكاء الاصطناعي، يستمر النقاش بين العلماء في كيفية دمج هذه التكنولوجيا بما يتفق مع القيم الإسلامية. ويُقرّ الدكتور غالي، بأنّ الذكاء الاصطناعي هو امتداد طبيعي إن لم يكن حتميًا للعصر الرقمي و”الانفجار المعرفي” على حدّ قوله. لكن ظهوره يثير تساؤلات أخلاقية ملحة وتحديات عميقة تتطلب دراسة متأنية.
يختم الدكتور غالي:” تواجه كافة الأديان والفلسفات الأخلاقية تحديات وأسئلة كبيرة ناتجة عن تطورات الذكاء الاصطناعي، سواء في الحاضر أو المستقبل. ولا مناص من التفكير في كيفية الاستجابة لهذه التحولات الكبرى ومناقشة تأثير الذكاء الاصطناعي على حياتنا، بما في ذلك تحصيل المعرفة الشرعية وممارسة الشعائر الدينية.