خلال السنة والنصف الماضية، جاهد مواطنو فلينت بولاية ميشيغان من أجل الحصول على المياه النظيفة والصالحة للشرب، فتحويل المدينة لمصدر مياهها من إمدادات المياه في ديترويت إلى نهر فلينت، تسبب في سلسلة من المشاكل الصحية العامة، بما في ذلك زيادة تركيزات بكتيريا الإشريكية القولونية والانتشار الأخير لداء الفيالقة الذي أودى بحياة 10 أشخاص، ولكن المشكلة التي كانت أكثر إثارة للقلق من جميع أنواع تلك البكتيريا كانت التركيزات العالية من الرصاص التي تتسرب من الأنابيب البالية القديمة في فلينت إلى المياه المتدفقة إلى منازل المواطنين، الأمر الذي قد يعرض آلاف الأطفال إلى هذه المادة السامة، ولكن كيف، يمكن للتعرض للرصاص أن يؤثر على الأطفال بالضبط، وهل يمكن لآثاره أن تكون دائمة؟
كيف يتم إدخال الرصاص إلى الجسم؟
لقد عرف الإنسان منذ فترة طويلة أن الرصاص يمكن أن يتسبب بتأثيرات صحية ضارة – وحتى أن البعض أشار بأنه قد ساهم في سقوط الإمبراطورية الرومانية- ولكن آثار المادة لم توثق على الأطفال سوى قبل نحو قرن من الزمان، وذلك تبعاً لـ(جاي شنايدر)، عالم الأعصاب في جامعة توماس جيفرسون، ومع ذلك، ما زال الرصاص العنصر المشترك في العديد من المنتجات المنزلية، وخصوصاً الطلاء، حيث أنه كان يستخدم لإضافة اللون والحفاظ على استقرار الخليط، حتى تم حظر استخدامه في عام 1978.
يتحول الطلاء الذي يحتوي على الرصاص، إلى غبار وقطع رقيقة عندما يسقط من جدران المنازل القديمة، وهذه واحدة من أكثر الطرق شيوعاً التي تساهم في تعرض الأطفال لهذه المواد، ولكن الرصاص يمكن أن يظهر في أشياء أخرى قد تثير الدهشة أيضاً، مثل العديد من المنتجات القائمة على الفينيل كستائر الحمام وواقيات المطر وأسلاك الهاتف، وبعض الأشياء التي صممت خصيصاً للأطفال، مثل صناديق الغداء ولعب الأطفال.
يمكن أن يتم تناول الرصاص عن طريق المياه أو المواد الملوثة الأخرى، وعلى الرغم من أن وكالة حماية البيئة قد حددت كمية الرصاص التي يمكن تواجدها في الماء حتى 15 ميكروجرام لكل لتر، إلّا أن بعض علماء السموم يعتقدون بأنه ينبغي أن يتم تخفيض هذا الحد إلى 10 ميكروجرام لكل لتر، ومن جهة أخرى يمكن أيضاً أن يتم استنشاق الرصاص أو حتى امتصاصه في بعض الأحيان عن طريق الجلد، ولكن لا يمكن أن ينتقل الرصاص من الماء إلى الجلد، لذلك فإن الاستحمام بالمياه الملوثة بالرصاص آمن طالما أنك لا تشربها.
بمجرد أن يدخل الرصاص في الجسم، يبدأ بالتنافس مع الكالسيوم ليتم امتصاصه من قبل الجسم، وهناك العديد من العوامل التي يمكن أن تؤثر على مدى امتصاص الرصاص بالجسم، ولكن بشكل عام، فإن نسبة الامتصاص الكلي للرصاص الذي يتم استنشاقه تكون أعلى من نسبة امتصاصه عندما يتم بلعه، وهو عادة ما يتعلق بخلايا الدم الحمراء – عادة ما يقوم الأطباء بإجراء اختبار للدم لإثبات حادثة التعرض للرصاص- ومن ثم ينتقل إلى الأنسجة الرخوة، مثل الكبد والرئتين، فإذا تم امتصاص الرصاص في العظام، يمكن أن يبقى هناك لعدة عقود، وينشر نفسه مرة أخرى في دم الشخص إذا ما تعرض لكسر في العظام أو عندما تصبح المرأة حاملًا، وهذا قد يؤدي إلى تسمم كل من الأم والجنين.
ما هي الآثار الصحية للرصاص وما هي مخاطره؟
عندما تمتص الخلايا في الدماغ الرصاص، فإنه يؤثر على القشرة الأمامية للدماغ، وهي المنطقة المسؤولة عن التفكير المجرد والتخطيط والاهتمام، وعلى الحصين، الذي يعتبر ضرورياً للقيام فيما يتعلق بالتعلم والذاكرة، ولكن الأعراض الناتجة تختلف كثيراً بين الأفراد، فتبعاً لـ(شنايدر)، أنت لا ترى نفس النوع من الخلل المعرفي لدى جميع الاطفال، ووفقاً لما أظهرته الأبحاث، فإن هناك اختلافات كبيرة جداً في الطريقة التي تستجيب من خلالها الأدمغة المختلفة لهذا السم بشكل خاص.
يمكن للعوامل مثل العمر والجنس وكمية الرصاص في الجسم والتركيب الجيني، أن تغير بشكل كبير من مجموعة معينة من الأعراض الناجمة عن التسمم بالرصاص في الدماغ، فالأطفال الصغار والصبيان مثلاً يظهرون تأثرات عصبية أقوى.
هناك أمر واحد ثابت، وهو أن الرصاص مادة سامة، وإذا ما استطاعت إيجاد طريقها إلى العقول النامية للأطفال الصغار، فإن العديد من الآثار يمكن أن تكون دائمة، فالرصاص يمكن أن يغير من الطريقة التي يتم فيها تمرير الإشارات في الدماغ، والكيفية التي يتم فيها تخزين الذكريات، وحتى كيفية حصول الخلايا على الطاقة، وهذا يمكن أن يؤدي إلى إعاقة في التعلم مدى الحياة، ومشاكل سلوكية، وانخفاض مستوى الذكاء.
بحسب (شنايدر)، فإن الرصاص يمكن حقاً أن يغيّر من برمجة الدماغ، وهذا قد يكون له آثار كبيرة على السلوك ووظائف الدماغ، وكلما تعمقنا في معرفة الرصاص وآثاره على الدماغ، يتبين بأنه حتى على هذه المستويات الجزيئية، يمكن أن يكون أكثر خطورة مما كنا نعتقد.
ما هي علاجات التعرض للرصاص؟
إذا كنت تشك بأن طفلك قد يكون مصاباً بتسمم الرصاص، فإن (شنايدر) يوصي بالحصول على فحص شامل من قبل طبيب أطفال، ولكن إذا ما تبين بأن الطفل قد تعرض بالفعل للتسمم، فللأسف ليس هناك سوى عدد قليل من العلاجات المتاحة، فإذا كانت مستويات الرصاص عالية جداً في الدم، يمكن للأطباء إخضاع الأطفال لعلاج إزالة المعادن الثقيلة، أي إعطائهم مادة كيميائية ترتبط مع الرصاص بحيث لا يعود بإمكان الجسم امتصاصه، وهذا يمكن أن يساعد على حماية الأجهزة المحيطة، ولكن معظم الأدوية التي تستخدم في “العلاج” لا تفعل أي شيء لإصلاح الأضرار التي سبق وأن حدثت للجسم، كما أنه لا يوجد علاج للمستويات المنخفضة من الرصاص في الدم.
يشير (شنايدر) إلى أنه على الأسر أن تتبع نهجاً وقائياً للتسمم بالرصاص، فإذا كان لديك أطفال صغار، وكنت تعيش في منزل قديم أو في منطقة تمتلك أنابيب مياه قديمة، يجب عليك الاتصال بخبير لاختبار المياه والطلاء في منزلك.
تجدر الإشارة إلى أنه لا يزال لدى العلماء العديد من الأسئلة حول كيفية تأثير الرصاص على الجسم، و(شنايدر) تحديداً يبحث في الكيفية التي يمكن للرصاص من خلالها أن يغيّر جينوم الشخص – وهو حقل الدراسة الذي يسمى علم التخلق، حول ما يمكن أن يعدل من سلوك الشخص، ويمكن أن ينتقل عبر الأجيال- حيث أن الحصول على فهم أفضل للآثار الجزيئية والجينية للرصاص قد يساعد العلماء في معرفة كيفية عكس ضرر التسمم به، فحتى الآن، لا يزال التسمم بالرصاص يشكل مصدر قلق على الصحة العامة، وخاصة في مجتمعات الأقليات منخفضة الدخل.