مقدمة عن علم الفلك:
علم الفلك هو علم يعنى بدراسة الفضاء خارج الغلاف الجوي الأرضي، والأجرام السماوية فيه وطبيعة حركتها، والظواهر الطبيعية المتعلقة بها، فجاء تعريفه في معجم الغني كالتالي: “علم يبحث في الأجرام السَّماوية من حيث تكوينها ومواقعها وقوانين سيرها، وهو أقدم العلوم” [1]، ولقد اهتم به علماء العرب والصينيين القدماء والإغريق وغيرهم، ومن هؤلاء العلماء الفلكيين: عبد الرحمن الصوفي، ومريم الإسطرلابي، وابن الهيثم، وقد كانوا مسلمين من مختلف أراضي العالم الإسلاميّ حينها، وشي شين (الصيني)، وأبرخش (اليوناني).
برع العرب قديماً في الجاهلية وفي عهد الإسلام في علوم الفلك، لأن تحديد الاتجاهات في الصحراء عديمة المعالم كان صعباً، فلجأوا إلى السماء بكوكباتها وتفاصيلها، وقد عزز عملية مراقبة النجوم عند العرب رعاية الماشية، حيث كان الرعاة يخرجون إلى البر الخالي والهادئ، ولا يسامرهم غير السماء ونجومها المضيئة البراقة. واستفاد المسلمون خاصة من علم الفلك في تحديد اتجاهات القبلة في الأماكن المختلفة بعد توسع الدولة الإسلامية، وأيضا حساب أوقات الصلوات، مثل صلاة العصر.
مميزات علم الفلك:
إنّ العلوم التي بحث فيها الإنسان جميعاً اقتصرت على ما بداخل الغلاف الجوي الأرضيّ، كعلوم الطب والأحياء واللسانيات والسياسة والكيمياء والاجتماع، كلها علوم تحلّل ما بداخل الكرة الأرضية الكبيرة بالنسبة للإنسان، التي عاش عليها منذ بدأ الخليقة. لكن علماً واحداً تجاوز حدود الأرض ليدعو هواته للنظر لما في أعالي السماء، وكشف أسرارها وأعماقها. وإنّ لهذا تأثيراً وأهميةً كبيرةً، وينمي إدراك العقل لكثير من الحقائق المهمة.
أول هذه الفوائد وأهمها التدبر والتأمل، عند رؤية عظمة هذا الكون ودقّة أنظمته، وهذا ما يساعد على الاسترخاء وإطلاق العنان للفكر والفلسفة، لأنّه لا يمكن تفسير كل ظواهر الفلك المعجزة بالصدفة أو الطبيعة، وإهمالها بعد ذلك، فهذه الظواهر والحقائق الفلكية تصف عالماً مضبوطاً محسوباً، بأنظمة ضخمة كالتي ترى بالتعمّق في هذا العلم، حيث يتبين بوضوح كيف أنَّ هذا الكون متجانس ومتماش باتزان وتناغم شديدين. فلا مثير للعجب أكثر من النظر إلى دقة المسافات بين الكواكب في المجموعة الشمسية، حيث أنَّ بُعد كل كوكب عن الشمس يعادل نصف بُعد الذي يليه عنها، فعلى سبيل المثال متوسط بعد المشتري عن الشمس يعادل (779 مليون كم)، أما زحل فقرابة الضعف (1.43 بليون كم)، ونبتون كذلك فيعادل بُعده عن الشمس (2.88 بليون كم) ، وهكذا. لذلك فإنّ علم الفلك يوجه علامات استفهام كثيرة بخصوص الخلق، ووجود الإله، وتستخدم حقائقه ونتائجه في مناظرات الأديان، وهذا ما يدل على أنّ تلك الدّقة والتفاصيل الهائلة لا يمكن أنّ تكون بلا معنى، ولذلك غالباً ما يوصف هذا العلم الذي يدرس هذا الكون المعجز بأنه علم تأمليّ وتدبريّ.
ثانيها، معرفة أنّ لا حدود للعالم، ولا نهاية لأي امتداد في هذه الدنيا، فالإنسان يبحث دائماً في العلوم الأرضية -كما ذكرنا- أكثر من البحث فيم يحدث خارجها، وهذا هو المتوقع، ولكن وجود علم يحلم بم يوجد خارج كوكبنا والسفر إلى النجوم والمجرات الأخرى يوسع آفاق إدراك العقل الإنساني، فبعد أنْ كان الإنسان يعتقد أنّ العالم والكون كله مختزل في الأرض فقط، صار يعرف أنّ هنالك أجراماً غيرها، وظنّ أنّها تدور حول كوكبنا، ومن ثم أدرك أن هذه الأرض الكبيرة في عينيه ليست سوى حبة رمل صغيرة، في بحار من الرمال بالنسبة لهذا الكون وأجرامه ومجراته. والمثال المناسب لتصوير هذا المشهد هو مثل رجلين، أحدهما قضى عمره كله في بيت مغلق، والآخر عاش حياته مسافراً متنقلاً من بلاد إلى بلاد، فمهما بلغت ثقافة الأول، يضل أقل إدراكاً من الثاني، لأن استيعاب الحياة هذه يزداد بزيادة معرفة جوانبها المختلفة، المعنوية وغير المعنوية، وأحد العلماء الفلكيين العظماء الذين توصلوا إلى تلك النظرة العالم أمريكي (كارل ساجان)، قال: “عندما ندرك مكانتنا وسط ضخامة السنين الضوئية ومرور العصور، عندما ندرك تعقيد وجمال ودقة الحياة، فإن ذلك الإحساس المتزايد الذي يجمع بين العَجَب والتواضع هو روحاني بالتأكيد” [3]. وذلك ينمي الفضول الفرد، فيطرح تساؤلات لانهائية، بداية من ماهية هذا العالم، إلى احتمالية وجود أكوان متعددة أخرى، وبالتالي تَطوُّرِ العلم أكثر فأكثر، وكِبَرِ مخزون البشرية المعرفي، وارتفاع مستوى الإدراك.
ثالثاً، فإنّ علم الفلك المبني على دراسته لنجوم وأجرام السماء -كما جاء في المقدمة-، يتطلب ملاحظة شديدة ودقيقة، وتسجيلاً مرتباً منظماً لكل حدث أو ظاهرة فلكية، ومراقبةُ السماء رغم كونها أمراً باعثاً على التدبر والتأمل، فإنَّه أيضاً يحتاج الكثير من الصبر والانضباط، لأن الباحث يحتاج كماً هائلاً من البيانات أثناء عملية بحثه، فبزيادة البيانات تزداد دقّة النتائج التي يصل إليها، والصعب بالنسبة لباحثي علم الفلك هو طول الفترات الزمنية بين الأحداث الفلكية، التي قد لا تستمر إلى سنوات فحسب، بل إلى عقود وقرون أيضاً! وأفضل مثال على هذا هو مذنب هالي المشهور، الذي يساوي متوسط فترة دورانه حول الشمس 75 عاماً، فلدراسة جرم كهذا يجب أن يكون جمع البيانات دقيقاً وأثناء فترات طويلة جداً، وهذا ما ينمي الصبر والتحمل والهدوء لدى الفلكيين، إضافة إلى الحاجة لتناقل المعلومات تلك عبر الأجيال، ليطورها ويبني عليها الجيل الثاني بعد جهود الجيل الأول في ملاحظاته وتدويناته.
خاتمة الموضوع:
أخيراً فإنّ علم الفلك علم فريد من نوعه، مختلف عن أغلب العلوم الأخرى، وهو علم تأمليّ، يدفع إلى التدبر في جمال هذا الكون العظيم، وكبيره واتساعه، فيشعر المتأمل في نجومه وأجرامه بالراحة والاسترخاء، ولذلك فهو يدخل بقوة بين الأدلة المستخدمة في حوارات الأديان، من جانب تحليل مصدر إعجازه. كما أنّ دراسة الفلك والتعمّق فيه يفتحان باب التساؤل عن ماهية الكون وحدوده، ويوسع آفاق الإدراك والمعرفة، ويحسّن فهم العقل الإنسانيّ للحياة، فهو لن يعتقد أنّه شيءٌ يذكر بالمقارنة مع أبعاد الكون الهائلة. كذلك ما يؤثر فيه البحث عن أسرار هذا العلم في تعزيز قوى الصبر والتحمل لدى الباحث فيه، وأيضاً تدعيم التكاتف بين جهود العلماء في مختلف البقاع، ومن أجيال إلى أجيال. وبهذا نتوصل إلى أنّ من وراء دراسة علم الفلك فلسفة وحكمة، لذا فيجب الاتفاق على أهمية الاهتمام به، والسعي للبحث فيه، وتطويره وتحسينه، من أجل تحقيق الفوائد والمصالح الكثيرة المترتبة على التأمل فيه بصدق وهدوء، وصدق عندما قال العالم ريتشارد فاينمان: “أهمية فلسفة العلم بالنسبة للعلم هي كأهمية علم الطيور بالنسبة للطيور” .
إعداد : سهلة دداش