في 20 فبراير عام 1986، ارتفع صاروخ بروتون من منصة انطلاقه في كازاخستان متجهاً إلى المدار المنخفض حول الأرض، وكانت حمولته عبارة عن وحدة (17KS)، المعروفة باسم المرحلة الأساسية من محطة (مير) الفضائية، وفي السنوات الـ 15 التي تلت ذلك، تم إضافة وحدات أخرى وإعادة ترتيبها، مما دفع البعض إلى تشبيه أول محطة فضاء في التاريخ للعبة التركيب (Tinker Toy)، ولكن مع ذلك لم تكن تلك المحطة تقليدية في ذلك الوقت، وكان يمكن استخلاص الكثير من اسمها، حيث يتم ترجمة “مير” في كثير من الأحيان إلى “السلام” أو “العالم”، ولكن معناها الأكثر دقة هو “القرية”، فإذا كان الأمريكيون والسوفييت الذين وضعوا برامج محطة مير الفضائية هم أعضاء ضمن قرية واحدة، فقد استطاعت (مير) الجمع بين الإثنين معاً من أجل خدمة هذه المهمة.
تبدأ قصة (مير) في عام 1976 مع تعهد الإتحاد السوفييتي بتحسين برنامج محطة الفضاء ساليوت، فمثل برنامج سكاي لاب الأمريكي، كان ساليوت عبارة عن محطة مؤلفة من وحدة واحدة يتم وضع جميع التجارب والأنظمة فيها مرة واحدة للاستعداد لإطلاقها إلى الفضاء الخارجي، وبمجرد وصولها إلى المدار، لم يكن هناك وسيلة حقيقية لإعادة تزويدها أو إضافة أي وحدات إضافية لها لتوسيع قدراتها في المدار، لكن كان كل من الأمريكين والسوفييت يعلمون بأن هذا سيكون له قيمة كبيرة إذا ما استطاعوا القيام به، ناهيك عن إمكانية إيجاد وسيلة لبناء محطة فضاء أكثر اكتمالاً وأكبر حجماً للمهمات الأكبر، وكان (فيرنر فون براون) من بين أول الداعين لبناء محطة الفضاء في المدار في وقت مبكر من خمسيسنات القرن الماضي، لذك تعد (مير) أول إثبات واضح لصحة هذه الفكرة الجديدة.
تعكس الوحدة الأساسية لـ(مير) التاريخ المبكر لها كجزء من ساليوت، فالوحدة مماثلة لمحطات الفضاء ساليوت 6 وساليوت 7 ولكنها مختلفة فيما يتعلق بأمر رئيسي واحد، وهو الفوضى الداخلية، حيث أن النموذج الجديد للمحطة الفضائية كان يمتلك قدرات إضافية وكان هناك محطات بحثية يتم إضافتها مع كل وحدة جديدة، لذلك كانت المرحلة الأساسية غير فوضوية، وفي الوقت الذي كانت فيه ساليوت تكتظ بأقسام للآلات والحمولة، كانت المرحلة الأساسية من (مير) تمتلك كابينتين صغيرتين للطاقم.
من هناك، بدأت الوحدات الإضافية تجعل (مير) أكبر وأكثر قدرة، وفي 12 أبريل من عام 1987، التحمت وحدة الفيزياء الفلكية (كفانت 1) بالمحطة الأساسية، مضيفة أدوات لقياس كهرومغناطيسية الأطياف والأشعة السينية المنبعثة من المجرات البعيدة، والنجوم الفلكية البعيدة، والنجوم النيوترونية إلى المحطة المتنامية، كما ضمت هذه الوحدة نظام للتحكم بالوضعية باستخدام الجيروسكوبات، مما يجعل المحطة كلها أكثر قدرة على المناورة بكثير، في حين جلبت وحدة كفانت الثانية، (كفانت 2)، مجموعة ثانية من الجيروسكوبات لمير في 6 ديسمبر 1989، وكذلك غرفة تعديل الضغط لتأمين سير أبسط في الفضاء، وجهاز للطيران أشبه بالوحدة المأهولة للمناورة التي تمتلكها وكالة ناسا، ونظام دعم جديد للحياة قادر على إعادة تدوير المياه وتوليد الأكسجين للتنفس، ومع هذه الوحدة، بدأت المحطة تصبح حقاً أكثر اعتماداً على نفسها، أو على الأقل أكثر مما كانت عليه حتى ذلك الوقت.
بعد ذلك تم إضافة وحدة كريستال، وعندما التحمت بالمحطة في 10 حزيران 1990، وأعطتها بوابة ثانية المنفذ لالتحام السفن، أصبحت قادرة على استقبال مركبة سويوز الفضائية ومكوك بوران، على الرغم من أن الأخير لم يزر المحطة أبداً، والجدير بالذكر أن كريستال كانت نقطة الالتحام للعديد من المكوكات الفضائية المختلفة، حيث أنها كانت نقطة التحام للسفن الفضائية التابعة لناسا منذ عام 1995، أما الوحدتين النهائيتين اللتان تم إضافتهما إلى مير فكانتا وحدة (سبكتر) ووحدة (بريرودا) في يونيو من عام 1995، وأبريل من عام 1996 على التوالي، وبحلول ذلك الوقت، كان الاتحاد السوفييتي قد سقط، وكانت مير مملوكة ومدارة من قبل وكالة الفضاء الاتحادية الروسية.
على مدى العقد الذي كانت فيه المحطة تحت الإنشاء، لم تكن (مير) فارغة، فقد استقبلت المحطة الطاقم الأول حين كانت لا تزال مؤلفة من وحدة أساسية واحدة في منتصف شهر مارس من عام 1986، ومن هذا الطاقم الأول الذي صعد على متنها حتى الطاقم الأخير الذي غادر في عام 2000، استضافت مير 28 طاقم رحلات طويلة، وقد استمرت هذه الحملات التي كانت روسية في معظمها لمدة ستة أشهر.
ولكن من ناحية ثانية، لم يكن جميع رواد الفضاء الذين صعدوا على متن مير من الجنسية الروسية، فقد كان هناك أيضاً دول أخرى خلال البرامج التعاونية، فمثلاً شهد برنامج (Intercosmos) الذي استمر على الفترة الممتدة ما بين عامي 1978-1988 استضافة مير لزوار من حلف وارسو، والدول الاشتراكية الأخرى، فضلاً عن الموالين للاتحاد السوفياتي ودول عدم الانحياز، والجدير بالذكر أن (محمد فارس) السوري الجنسية وأول رائد فضاء عربي كان من ضمن هؤلاء الزوار، في حين أن برنامج (Euromir) الذي بدأ في تسعينيات القرن الماضي، كان كجهد تعاوني بين وكالة الفضاء الاتحادية الروسية ووكالة الفضاء الأوروبية، وبرنامج (Shuttle–Mir) الذي كان عبارة عن تعاون بين روسيا والولايات المتحدة شهد على رواد الفضاء وهم يركبون على متن سويوز متجهين إلى مير ليرسوا عليها عبر بوابة وحدة كريستال.
عاشت مير أكثر بكثير من عمرها المخطط لها والذي كان لا يزيد عن خمس سنوات، واستضافت خلال هذه الفترة حوالي 125 رائد فضاء من 12 دولة مختلفة خلال 17 بعثة مختلفة، ولكن المشاكل التقنية والإهتراء الناتج عن تقدمها في العمر أثر عليها كثيراً في نهاية المطاف، وفي نوفمبر من عام 2000، أعلنت الحكومة الروسية أن مير سيتم الاستغناء عنها وسيتم إزالتها من المدار الأرضي، وفي 24 يناير 2001، تم تشغيل المحركات الصاروخية على متن مير لإبطاء حركتها فدخلت إلى الغلاف الجوي للأرض واحترقت وتفككت، وسقطت بعض أشلائها جنوبي المحيط الهادئ على بعد أكثر من 1500 ميل من نيوزيلندا.