بعد مرور حوالي القرن على اكتشاف الزمر الدموية، ما زلنا لا نعرف تماماً ما هي وظيفة هذه الزمر، وهل تفيدنا بشيء، ومازال يوجد لدينا الكثير من الأسئلة لنجيب عليها، مثل لماذا يحمل 40% من القوقازيين الزمرة الدموية (A)، بينما 27% فقط من الآسويين لديهم هذه الزمرة، ومن أين تأتي الأنواع المختلفة للزمر الدموية؟؟ أسئلة كثيرة حيرت العماء على مدى سنين طويلة لمعرفة الطرق السليمة لنقل الدم وما هي أسباب تكتل بعض الدم على بعضه حين مزجه بينما تبقى البلازما في حالتها السائلة في بعض العينات الأخرى؟؟ ولماذا بعض الزمر الدموية محمية من أمراض معينة بينما البقية لا تملك هذه الحماية؟
تم اكتشاف فصائل الدم للمرة الأولى في عام 1900 ممن قبل الدكتور النمساوي (كارل لاندشتاينر)، ومنذ ذلك الحين بدأ العلماء بتطوير أدوات لاكتشاف بيولوجية أنواع الدم، وقد استطاعوا الوصول إلى بعض الدلائل المثيرة للاهتمام، كتتبعهم للأصول الأولى لأنواع الزمر الدموية، واكتشافهم لتأثير الزمر الدموية على صحة الانسان، وعلى الرغم من التطور الكبير الذي وصل إليه العلماء في هذا المجال، إلا أن الغموض ما زال يكتنف بعض نواحي الزمر الدموية.
كان مفهوم نقل الدم من شخص إلى آخر منذ فترة قريبة هو مجرد حلم طبي، حيث قام بعض الاطباء في القرن السابع عشر ميلادي، باختبار فكرة نقل الدم، ولكن النتائج كانت كارثية، حيث قام أحد الأطباء الفرنسيين بحقن دم العجل في أوردة أحد المجانين، مما أدّى على الفور إلى إصابة المريض بالتعرق والقيء وإلى اختلاج كامل في الجسم أودى إلى انتاج بولاً متسخاً، وبعد أن قام الطبيب بعملية نقل دم ثانية، توفي الرجل على الفور.
بقي موضوع نقل الدم بعد ذلك موضع شك على مدى 150 سنة، حتى جاء في القرن التاسع عشر الطبيب البريطاني (جيمس بلونديل)، الذي استنتج بأن المشكلة كانت ناجمة عن استخدام دم الحيوانات، ووصل إلى نتيجة مفادها بأن البشر لا يجب أن ينقل لهم سوى دم بشري، ولكن لسوء الحظ فقد كانت عملية نقل الدم التي أجراها (بلونديل) لشخص مصاب بالنزيف الحاد فاشلة تماماً، بعدها اكتشف العلماء بأن جمع العينات الدموية المأخوذة من أشخاص مختلفين يؤدي إلى تكتل الدم أحياناً في أنابيب الاختبار، ولم يستطع العلماء في حينها معرفة سبب ذلك،حتى جاء اكتشاف زمر الدم على يد (كارل لاندشتاينر).
اكتشف (لاندشتاينر) بأن تكتل الدم يحدث فقط عند مزج عينات دموية مأخوذة من أشخاص يحملون نوعاً معيناً من الدم، وبعد تجربة جميع التركيبات معاً استطاع الوصول إلى فرز عينات الدم في ثلاث مجموعات، أعطاها أسماء افتراضية (A) (B) و(C) – حيث تم استبدال الحرف C فيما بعد بالحرف O، وبعد بضع سنوات اكتشف الباحثون مجموعة دموية أخرى هي ((AB، وبحلول منتصف القرن 20 قام الباحث الأميركي (فيليب ليفين) باكتشاف طريقة أخرى لتصنيف الدم، وذلك استناداً إلى احتواء الدم على عامل RH، وهو الذي حدد فيما اذا كانت زمرة الدم موجبة أم سالبة.
كانت عملية تصنيف الزمر الدموية سهلة نسبياً، فحين كان (لاندشتاينر) يقوم بمزج عينات دم من فئة (A) معاً كانت البلازما تظل في حالتها السائلة، وكذلك الأمر بالنسبة لفئة (B)، أما إذا مزج المجموعتين (A) و(B) معاً كانت البلازما تتكتل على بعضها، أما بالنسبة للمجموعة (O) فقد كان الأمر يختلف، فعند مزج كريات دم حمراء مأخوذة من فئة (A) أو (B) مع بلازما من المجموعة (O) كانت الخلايا تتكتل على بعضها، إلّا أن العكس لم يكن صحيحاً، أي مزج خلايا دم حمراء من فئة (O) مع بلازما من فئة (A) أو (B) أبقت البلازما بحالتها السائلة.
لم يكن (لاندشتاينر) يعرف تماماً ما يميز أحد أنواع الدم عن الآخر، حتى اكتشف جيل آخر من العلماء في وقت لاحق أن خلايا الدم الحمراء في كل نوع يحتوي سطحها الخارجي على جزيئات مختلفة الأشكال، حيث يكون الجهاز المناعي لدى حامل هذه الزمرة أو تلك معتاداً عليها، وإذا ما تم نقل نوع آخر من الدم إلى الجسم فإن جهاز المناعة يستجيب للجزيئات الغريبة بطريقة هجومية، حيث يعتبر بأن خلايا الدم الجديدة عبارة عن عوامل غازية للجسم، والاستثناء الوحيد لهذه القاعدة هي الزمرة (O)، حيث أنها لا تحمل أي جزئيات خاصة بها.
ولكن لماذا تحتوي خلايا الدم الحمراء بالأصل على مثل هذه الجزيئيات؟ ولماذا تختلف هذه الجزيئات عن بعضها البعض ؟
بحسب (د. آدمو) الذي قام بتأليف كتاب “تناول الأطعمة الصحيحة لزمرة دمك” ، فإن هناك نظام غذائي خاص بكل زمرة دموية، فعلى سبيل المثال أصحاب الزمرة الدموية (O) يجب أن تكون حميتهم الغذائية معتمدة على اللحوم، وأصحاب الزمرة الدموية (A) يجب أن تعتمد حميتهم على الخضراوات.
للتأكد من النتائج التي توصل )آدمو) قام الدكتور (أحمد السوهيمي) وهو عالم تغذية في جامعة تورنتو مع زملاؤه، بتقسيم مجموعة من المشاركين في دراسة أقاموها بحسب حمياتهم الغذائية التي تعتمد على الزمر الدموية، حيث أعطى العلماء كل شخص في الدراسة درجة لمدى التزامه بحميته تبعاً لكل نوع من أنواع الدم، حيث وجد الباحثون أن بعض الأنظمة الغذائية كانت ذات فائدة لمتبعيها، فعلى سبيل المثال، لوحظ لدى الأشخاص الذين يتبعون النظام الغذائي الخاص بالزمرة (A) أن كتلة جسمهم قد انخفضت، وأصبح خصرهم أصغر، كما انخفض ضغط الدم لديهم، أما من اتبعوا الحمية الغذائية المخصصة لزمرة الدم (O) فأصبحت نسبة الشحوم الثلاثية في جسمهم أقل، أما الحمية الغذائية المخصصة للزمرة (B) والتي تعتمد بالمجمل على منتجات الألبان، فلم تقدم أية فائدة تذكر، وبالنهاية فقد استنتج العلماء من هذه التجربة بأن هذه الحمية تفيد جميع الأجسام البشرية بغض النظر عن الزمرة الدموية التي يحملونها .
أما بالنسبة للجزيئات الدموية التي تختلف من زمرة دموية لأخرى، فقد وجد العلماء أن هناك جين معين مسؤول عن اختلاف الجزيئات الموجودة على سطح كريات الدم الحمراء يدعى (ABO)، أما الأشخاص الذين يحملون الزمرة الدموية (O) فقد حصلت لديهم طفرات في الجين ABO تمنعه من صنع الانزيم الذي تميز كل من A أو B.
ظهرت دراسة غريبة من نوعها في بومباي في عام 1952، حيث اكتشف أحد الأطباء أن مجموعة من المرضى ليس لديهم فصيلة دم على الإطلاق، وبحسب العلماء فإن هذه الظاهرة التي أطلق عليها اسم (ظاهرة بومبي) لا تؤدي إلى أضرار تذكر، سوى أن الدم الوحيد الذي يمكن نقله للأشخاص الذين يعانون من هذه الظاهرة يجب أن يكون من شخص يعاني من ذات الحالة أيضاً، مما مؤداه أن اختلاف الزمر الدموية لا يخدم أي وظيفة في جسم الانسان.
بدأ العلماء مؤخراً بالعمل على دراسة لمعروفة فيما اذا كانت بعض الأمراض ترتبط بزمر دم معينة، حيث قام (كيفن كين) من جامعة تورونتو وزملاؤه، بالتحقيق حول السبب الذي يجعل الأشخاص الذين يحملون الزمرة الدموية (O) محميين ضد الملاريا أكثر من الأشخاص الذين يمتلكون زمر أخرى من الدم، وقد بينت الدراسات بأن الخلايا المناعية لدى حاملي زمرة الدم (O) تتعرف بسهولة على خلايا الدم المصابة،على عكس الخلايا المناعية في باقي زمر الدم.
أخيراً، يمكننا القول بالمجمل بأن الزمر الدموية ما تزال بمثابة لغز محير بالنسبة للكثير من العلماء، حيث أننا لا نعلم حتى الآن سبب اختلاف الزمر الدموية بين البشر، وما تزال الدراسات في هذا المجال بحاجة إلى شوط طويل من البحوث والتدقيق.