تكررت في القرآن إشارة مُحَّيرة – إن صح فهمي لها – فهي تنفي ما هو شائع في اعتبار «الرياضيات» آلة معرفية لا تخطئ.
«وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا» النحل ١٨
لأول وهلة قد نفهم من الآية أن النعم أكثر من قدرتنا على العد، ولكن بالرغم من هذا فالآية لم تنف قدرتنا على العد أصلًا.
على العكس، أقر الله لنا بالعد، ثم نفى الإحصاء؟
عندما أراد القران نفي قدرات الإنسان فعل ذلك بشكلٍ مباشر، وقد نفت آيات أخرى العديد من القدرات، مثل نفي القدرة على الخلق، أو الإحاطة العلمية، أو النفاذ من أقطار الكون، ولكن هذه الآية لم تحاول أن تنفي قدرتنا على العد أصلًا. فكيف يقر القرآن القدرة على العد، ثم ينفي الإحصاء في جملة واحدة؟
الأمر ليس مجرد تعبير مجازي لتعظيم النعم؛ فالمقارنة بين العد والإحصاء تكررت خمس مرات في القرآن، ومع اختلاف المعدود ظلت الإشارة ثابتة: اختلاف وجاهة العد عن الإحصاء.
أي دارس للإحصاء يعرف تمامًا أن الإحصاء هو عبارة عن عد الأشياء، وتلخيصها حسابيًا، فكيف يعترف القرآن بوجاهة الإحصاء نفسه كمنتج معرفي في إحدى عشرة آية مختلفة، ثم لا يسبغ نفس الوجاهة على المنهج الرياضي العددي اللازم لإنتاجه؟
وإن لم يكن الإحصاء رقميًا بالضرورة، فما هو أكثر وجاهة من الأرقام؟
فنحن نعلم أن أعلى يقين علمي هو اليقين الرياضي، و لكن ما هو مصدر هذا اليقين الرياضي؟
عندما تتساءل لماذا يثق العلماء في معظم التخصصات في تعميمات نتائج تجاربهم، بالرغم من أنهم أجروا التجربة على عينة قد تكون مختلفة تمامًا عن الواقع، يردون بشكل قاطع أن التعميم في جوهره عملية رياضية.
ولسبب ما اتفق العلماء أن ما أثبت رياضيًا فهو صحيح، بل إن هذا الإيمان شاع حتى صار مثلًا «إن لغة الأرقام لا تكذب»،
ولكن لماذا؟
وهل علماء الرياضيات أنفسهم يشاركون بقية العلماء في هذا الإيمان الكامل في الرياضيات؟
هل الأرقام حقيقية فعلًا؟
يشرح « دكتور جوناثان تالنت في حواره الرائع » حول طبيعة الأرقام، أنه ليس هناك لغةٌ واحدة للأرقام، بل عدة لغات «عدة مدارس فلسفية». وللأسف لا توجد لغة رياضية واحدة لا تكذب. فلو اعتبرنا الرياضيات لغة، فإن الأرقام هي أبجدياتها، فالاختلاف بين اللغات ليس اختلاف لهجات أو ألفاظ، بل اختلاف جذري على مستوي الأبجدية نفسها، فإلى الآن لم يتفق الرياضيون أصلًا على تعريف موضوعي لماهية الأرقام نفسها.
وهي بالفعل مهمة صعبة؛ فالأعداد نفسها ليس لها وجود فيزيائي في الطبيعة يمكن استخدامه كمرجع لتوحيد ما نقصده. فكيف ندعي أن الأعداد نفسها لها مصداقية؟ أو أنها تعبير موضوعي عن المعدود؟ ما الذي يجعلنا نعتقد أن الأعداد أكثر موضوعية من الأسماء مثلًا؟
فالألوان مثلًا لها وجود مستقل؛ حينما نقول إن هذه السيارة حمراء نستطيع أن نتحقق سويًا من لونها، ولكن عندما نقول نفس المعنى بالأرقام، وأنها تعكس ترددًأ موجيًا ٧٠٠ فهذا أمر لا نراه، وتصديق معظمنا له هو إيمان محض، فأيهم أصدق لفظة: «أحمر» أم رقم «٧٠٠»؟
والسؤال الأهم هل الرقم له معنى حقيقي؟
هل تحديد اللون في شكل رقمي أضاف لنا يقينًا ما أو معلومة جديدة؟
هناك ثلاث إجابات مختلفة على هذا السؤال: فهي إما أن الأعداد لها وجود حقيقي ومستقل بالفعل ونحن ندرك وجودها. أو أنها مجرد وصف كمي للموجودات، وبالتالي لا تختلف في موضوعاتها عن الأسماء والصفات. أو أن الأرقام ليس لها وجود حقيقي أصلا خارج خيال الرياضيين، ويمكن أن نستخدمها بشكل إبداعي أو الاستغناء عنها تمامًا حسبما شئنا، ولكننا إلى الآن لم تستطع أي من هذه الاجابات أن تحسم النقاش.
اعتقدت المدرسة الأفلاطونية أن الأرقام حقيقية، بمعنى أن لها وجود مستقل عن المعدود، ولكن بما أنها غير موجودة بشكل مادي، فهذا يعني أن الأرقام لها وجود «ميتافيزيقي». فأنت مثلًا تستطيع التعامل مع الأرقام ٢ *٥ = ١٠ بدون الحاجة لأن تتساءل ما الاثنان أو عشرة من ماذا؟ بل تستطيع إدراك الأرقام واستخدامها بحالتها المجردة، وبشكل مستقل تمامًا عن الواقع المادي. كثير من كبار الرياضيين المعاصرين، مثل «باول ايردوس وكور تغودل وروجربنروز» يعتنقون هذا الفهم الأفلاطوني؛ لأنه ببساطة هو الفهم الوحيد الذي يدعي أن الأرقام حقيقية. ولكن كثيرين اختلفوا معهم ، فادعاء الطبيعة الميتافيزيقية للأرقام ليس مجرد كلام فلسفي نظري، بل له تكلفته العملية. فمعنى هذا أن الرياضيات نفسها عبارة عن علم حدسي، وليس منطقيًا، وبالتالي فقد يصح القبول بسلوك رياضي غير منطقي، وبهذا تبدأ الرياضيات في افتراش مساحة مائعة من التبريرات الحدسية، وتزيد مساحة تقاطعها مع الفلسفة.
مشكلة أخرى هي أنه لو كانت الأرقام لها وجود حقيقي، فهذا معناه أن الرياضيات دورها لا يتعدى اكتشاف الواقع الرقمي، وليس ابتكاره. وبغض النظر عن الجدل الفلسفي، فعلى أرض الواقع يؤدي هذا التصور إلى إهدار جانب كبير من الرياضيات الحالية. فالإثباتات الرياضيةيجب أن يقتصر اشتقاقها من أشياء لها وجود حقيقي، مثل الأشكال الهندسية. وبالتالي، فكثير من مفاهيم الرياضة البحتة (١) التي نستخدمها اليوم ستصبح غير صحيحة، بل كثيرًا ما يؤدي التداعي المنطقي بالرياضيين من هذه المدرسة أن يؤمنوا أن الوجود نفسه مبني من الأرقام (بالمعني الحرفي للبناء).
ولكن المشكلة الرئيسة في هذه المدرسة تظل في أننا إذا ادعينا أننا ندرك الأرقام بشكل حقيقي وصحيح وموضوعي. فمعناه أننا ندعي أننا أصبحنا ندرك الوجود الميتافيزيقي بشكل حقيقي وصحيح وموضوعي. وهو أمر يتنافى مع التصور المادي التقليدي، ويتنافى أيضًا مع الفهم السائد في الأديان الذي ينفي قدرة الإنسان على إدراك الماهيات الميتافيزيقية أو كمال العلم بأي موجودات، بل إنه يتناقض مع مدرسة أفلاطون نفسها، والتي تستبعد قدرة الإنسان على بلوغ ما هو ميتافيزيقي بشكل موضوعي.
الأرقام كوصف مادي: ما هي القيمة التي يشير لها الرقم؟
لذا فقد بدأ الرياضيون المسلمون وتبعهم الغربيون في تطوير الرياضيات التقليدية (المدرسة الاسمية). وهو تصور مادي صرف على النقيض التام من التصور الميتافيزيقي، فاعتبروا أن الأرقام مجرد تعبير عن الأشياء المعدودة؛ فأنت تُعلِم الأطفال الأرقام باستخدام الأشياء «هذا قلم، وهذا قلم آخر، الآن معنا قلمان»، وبالتالي فنحن عندما نعد، فنحن نعد الأشياء لا الأفكار المجردة. وبالتالي لا وجود حقيقي للأرقام مستقلًا عن الأشياء، بل هي لا تتعدي خواص كمية للوجود. وهذا التصور، وإن كان يبدوا لأول وهلة منطقيًا، الا أن فيه العديد من المشاكل. فهناك أعداد غير مرتبطة بأي شيء فيزيائي مثل الأرقام المعقدة والأرقام التخيلية، وكذلك ستصبح الـ«pi» أو الـ«ط» (وهي مجرد تعبير رقمي عن استدارة الدائرة) غير صحيحة؛ إذ إنها لا ترتبط بوجود مادي.
مشكلة أخرى في ربط وجود الأرقام بالأشياء هي أن كثيرًا من الأرقام ليس لها قيم دقيقة، بل تقريبية، فالواقع أصلًا سائل متصل ومتواصل (Continuous)، بينما الأرقام نقاط جامدة منفصلة (Discrete). ولذا فهي ليست تعبيرًا دقيقًا عن الواقع المادي أصلًا. فإذا قلت لك إن درجة الحرارة اليوم في لندن ١٨، فهي تعبير غير صحيح عن درجة الحرارة؛ لأننا اعتبرنا أن اليوم هو وحدة متجانسة ومنفصلة عن اليوم الذي يليه. بينما الواقع المادي متدرج ومتصل؛ فاليوم قد تسود فيه درجة حرارة ٥ في أغلب أوقاته ودرجة ١٨ لن تكاد تراها في أغلب اليوم، وبالتالي فأنا أعطيتك معلومة غير صحيحة. فشل الأرقام في وصف الواقع المادي يرجع في جوهره لسيولة الواقع وجمود الأرقام؛ فأنت تعتبر أن هناك نقطة اسمها ١٠ سنتيمتر، بينما في الواقع هي مساحة شاسعة من التغير لا تكاد توجد فيها نقطة واحدة يمكن تسميتها صدقًا بـ ١٠. لهذا فلكي نصمم نموذجًا هندسيًا دقيقًا نستخدم أدوات رياضية سائلة (٢) والتي تحاكي تراكم الواقع المادي فتعطينا نتائج أكثر دقة من استخدام النظم التقليدية الجامدة (٣).
فمساحة كبيرة من الأرقام ليس لها قيم محددة، بل قيم تقريبية. فمثلًا ٢٢/٧ تساوي ٣.١٤ وإن أردت الاستزادة من الأرقام العشرية فقد تعني ٣.١٤٢٨٥٧١…. إلى ما لا نهاية، فلا يمكنك تحديد الرقم، ولكن تقريبه. وبالتالي فحين يقوم جهاز بعملية حسابية ما، مثل القسمة أو الجزر أو «اللوغاريتم»…إلخ، فعليه أن يتخذ في كل مرة قرارًا: إلى أي مدى يجب أن يقرب بدون أن يضر بالمستخدم. بالإضافة إلى أن التعبيرات الرياضية نفسها ليس لها معنى واحد، فالجزر التربيعي لـ ٢ لا يوجد له قيمة ثابتة، بل هناك عدد من الطرق لحسابه وكل طريقة لها ناتج مختلف عن الأخرى. وبالتي عملية حسابية ببساطة، جزر ٢ قد تنتج قيمتين مختلفين على آلتين مختلفين.
لذلك، فعندما نصمم منتجًا هندسيًا نحصل على دقة عالية من التصميم المعتمد على تموج المكونات الهندسية أو الميكانيكية بشكل سائل باستخدام كتلتها وخواصها المادية والتي لا تحتاج إلى تقريب، بينما لو أعدنا إنتاج نفس هذا التصميم بشكل «ديجيتال» ستقل دقته بمقدار تقريبه للأرقام. لهذا لا يزال بعض المصورين يفضلون استخدام الكاميرات ذات الأفلام على الكاميرات الديجيتال، وكذلك مازال الكثير من «استوديوهات» الصوتيات تستخدم الأجهزة «الأنالوج»؛ لأنها تتعامل مع الصوت الحقيقي، لا مع تقريب رقمي منه.
مرة أخري هذا الاختلاف، ليس اختلافًا بسيطًا؛ لأن تعاقب العمليات الرياضية قد يؤدي إلى تراكم الأخطاء البسيطة وتضخيمها بشكل متسارع (٤). لهذا ففشل المصمم في التنبؤ بها قد يسبب فشلًا كاملًا للمنتج الهندسي. فمثلًا سنة ١٩٩٦ تسبب تراكم أخطاء التقريب في تحطم صاروخ لوكالة الفضاء الأوروبية بعد ٣٧ ثانية من انطلاقه.
كذلك، في حرب العراق تراكمت أخطاء التقريب في نظام الدفاع الجوي الأمريكي، وبعد ١٠٠ ساعة من التشغيل تضخم الخطأ حتى أصبح يحدد مواقع الصواريخ العراقية بخطأ مقداره ثلث ثانية، وهي مدة كانت كافية تمامًا للصواريخ العراقية أن تتفادي أسلحة الدفاع، وتصيب أهدافها، وتدمر ثكنات الجيش الأمريكي، فتقتل ٢٨ أمريكي راحوا ضحية للتقريب العددي.
بالمثل ففي السيارات الحديثة، والتي تتحكم إلكترونيا في حقن الوقود إلى المحرك، تقوم وحدة إلكترونية بأخذ قرار بضخ كمية معينة من البنزين؛ بحيث يتناسب مع كمية الهواء داخل المحرك. وهي تتخذ هذا القرار باستخدام معادلة رياضية. إلا أن صحة الرياضيات هنا تقتصر على التقريب، ومهما زادت الدقة فلا بد لاستخدام الأرقام من قدر ما من التقريب مما يجعل هناك دائمًا خطأ ما. ولو اعتبرنا الخطأ في حدود١ على مليون من اللتر في كل دورة. فكل ما يتطلب الأمر هو عدة ساعات من استعمال السيارة؛ حتى يصل معدل الخطأ إلى إفشال المحرك تمامًا. لذا فإحدى أساسيات التصميم لوحدات التحكم الإلكتروني هو حساب خطأ التقريب وتعديل ناتج المعادلة بصفة مستمرة؛ حتى تتفادى تراكم الأخطاء الحسابية (برجاء مراجعة المصادر في الروابط الموجودة في الفقرة).
أحد المشاكل الكبيرة أيضًا هي أننا إذا اعتمدنا التفسير المادي للرياضة التقليدية فيجب علينا أن نتخلى عن الأرقام المعقدة والتخيلية. وهي أرقام لا تصف أصلا أي موجودات حقيقية، ولا حتى منطقية. فبينما نعلم التلاميذ مثلًا أنه لا يوجد جذر تربيعي لأي رقم سالب (لأن الإشارة السالبة تختفي عندما نضرب رقمًا في نفسه) تقوم الأرقام التخيلية على افتراض قيمة ما لهذا الجذر. هذه الأرقام التخيلية ليست مجرد رياضة ذهنية للأذكياء، بل إن لها تطبيقات عملية مثلت فتوحات علمية في مجال معالجة الصور على الكومبيوتر، ومعالجة الصوت، وتطوير الاتصالات والنظم الديناميكية، بل وفي النسبية، وفي فيزياء الكم أيضًا.
لهذا فالمدرسة التقليدية في الرياضيات لا تستطيع أن تبرر لم علينا أن نثق في الأرقام أكثر مما نثق في الأوصاف الاسمية. فهي أيضًا تعبيرات تقريبية، جامدة. تحاول احتواء واقع سائل ليس بالضرورة ماديًا ولا منطقيًا. لذا فهي تنجح أحيانًا وتفشل أخرى. وأفضل ما يمكن أن تفعله هو أن تفسح المجال للتعبيرات الرياضية الديناميكية. وهي بمثابة الأفعال في اللغة، بينما الأرقام بمثابة الأسماء الجامدة.
الأرقام كقصة مفيدة ولكن غير حقيقية
التطويرات الحديثة المتسارعة في استخدامات الأرقام المعقدة والتخيلية أعادت من جديد فتح ملف المدرسة الثالثة، وهي مدرسة القصص. وهي تقول إن الأرقام غير حقيقية أصلًا، بل هي مجرد حكايات خيالية مفيدة. فلكي تكون الأرقام حقيقية يجب أن يكون لها وجود مستقل عما تقيسه، وهذا يستلزم أن تكون الأرقام نفسها موجودة بشكل مستقل، إما ميتافيزيقي (وهو ما يرفضوه)، وإما لها وجود مادي وهو أمر غير واقع، فبالتالي لا يمكن أن يكون للأرقام وجود حقيقي. وهذه المدرسة لا تعترف بصحة الأرقام، بالرغم من النجاح التطبيقي للأرقام. فالنجاح التطبيقي ليس دليلًا كافيًا على الصحة. كمثال قصة الراعي الصغير الذي يستصرخ الناس لإنقاذ غنمه من الذئب، ثم يستهزئ بهم، وانتهى الأمر بأن هاجمه ذئب بالفعل، فلم ينجده أحد. هي قصة ـ تربويًا ـ مفيدة، ومن أنجح القصص في تعليم فائدة الصدق؛ لذا نجدها في كل الثقافات الإنسانية، ولكن نجاحها هذا لا يعني أنها حقيقية.
لهذا ترى مدرسة القصص انه يمكننا ـ متى شئنا ـ أن نطور رياضيات بقواعد جديدة تمامًا. فعلى سبيل المثال قام هارت ريفيلد سنة ١٩٨٠ بضرب مثال على الرياضيات القصصية؛ فأعاد إنتاج قواعد «الميكانيكا الكلاسيكية» لـ«نيوتن» باستخدام رياضيات ليس بها أرقام أصلًا. فأعطى مثالًا أثار جدلًا علميًا كبيرًا على أن الرياضيات يمكنها حتى أن تستغني عن الأرقام نفسها. وبالرغم من أن هذه المدرسة واجهت كثيرًا من الرفض؛ لأنها تنفي الواقع العددي، وهو ما لا يستسيغه عموم المجتمع العلمي، إلا أنه لم يستطع أحد إخراجها من النقاش؛ لأنها هي اللاعب الوحيد في مساحة الرياضيات المعقدة والتخيلية.
إيمانًا كإيمان العجائز وعلماء الرياضيات
لم تستطع أي مدرسة من الثلاثة أن تعطي تفسيرًا مقبولًا لما علينا أن نثق في الأرقام أكثر من الأسماء، ولا حتى استطاعت إحداها ادعاء يقين قاطع ودقيق في كل منتجاتها المعرفية، وجل ما تستطيع هو تحديد وتحييد معدل الخطأ. لهذا فاليقين لدى علماء الرياضيات يقين عملي، وليس يقينًا نظريًا مطلقًا.
يقين يتعامل مع الطبيعة غير الجازمة وغير الشاملة للأرقام، يقين يضع في الحسبان تفوق اليقين الفيزيائي على اليقين النظري. هذه النظرة المعترفة بالنطاق العملي للمعرفة، والتي ترى أكثر من غيرها المعرفة البشرية بقصورها المادي والمنطقي والعملي تضع عالم الرياضيات، أكثر من غيره، في مواجهة الواقع الميتافيزيقي للوجود، وتضطره إلى أن يأخذ موقفًا حاسمًا وأكثر استقطابًا، إما بقبول الدين، والوجود الميتافيزيقي بشكل قاطع كأمر منطقي مسلم به، أو برفضه بشكل قاطع، والمغالاة في تصور الحياة والإنسان والأخلاق كمنتج مادي بحت. فتقل مساحة غير الحاسمين لموقفهم أو ذوي الأيديولوجيات الوسطية فيهم. ولعل هذا الاستقطاب هو ما يجعل علماء الرياضيات أكثر العلماء تدينًا، ووجود أقل نسبة ملحدين بينهم. فقد وجدت الأبحاث أنه، على عكس الشائع؛ ففي خلال المائة سنة الماضية لم يحدث تغيير يذكر في نسبة العلماء الذين ألحدوا (٤٢٪ مؤمنين ٤٢٪ ملحدين ١٦٪ غير ملحدين ولكن لا ينتسبون لدين)، وبينما يبني معظم العلماء الملحدين وجهة نظرهم على الدليل الرياضي نجد أن علماء الرياضيات أنفسهم أقل العلماء ثقة عمياء بالرياضيات، وأكثر العلماء إيمانًا بوجود الله (برجاء مراجعة المصدرين في هذه الفقرة).
ونعود مرة أخرى للسؤال الذي بدأنا به: كيف أقر الله لنا بالعد، ثم نفى الإحصاء؟
القران يشير في خمسة مواضع للإحصاء كمنتج معرفي غير رياضي. أي أن الإحصاء في التعبير القرآني يشمل المعرفة غير العددية! وهذا يتوافق تمامًا مع الرياضيات المعاصرة، ففي مختلف المدارس نجد أن اليقين الذي توفره الرياضيات هو يقين كيفي لا يعنى كثيرًا بالعدد نفسه، ولكن بالمعدود. فالإحصاء لا يوفر معرفة وجيهة إن كان يقتصر على حصر الأعداد وتلخيصها، بل وجاهته تأتي من قدرته على وصف المعدود. هذه القدرة قد تأتي من الوصف اللفظي، أو الرقمي أو الإحاطة الحسية المباشرة إن كان هذا ممكنًا. فالإحصاء هو حزمة من الأوصاف التي تعبر عن الموصوف. وبالتالي فكلما زادت هذه الحزمة تفصيلًا وتنوعًا ودقة، زادت وجاهة الإحصاء، وزاد عمقه وزادت قدرته استدعاءً لحقيقة الموصوف.
سننتقل في المقال المقبل إلى الواقع العملي لدى الاقتصاديين؛ لنستكشف كيف يؤثر قصور الأعداد كمخازن غير محكمة للقيمة في إنتاج معرفة إحصائية قاصرة بالمعدود. وفي النهاية سنعود لزيارة التفاسير القرآنية لمقارنة اليقين الإحصائي الرياضي بالمفهوم الإحصائي القرآني.