لا بد وأننا جميعاً مررنا بهذا الشعور من قبل؛ تلك الرغبة التي لا تقاوم في نقر أرجلنا على الأرض أو التمايل برأسنا عند سماع أغنيتنا المفضلة.
يمتلك البشر صلة غريبةً مع الموسيقى، فهي تحركنا وتعلق بأذهاننا على مستويات عميقة جداً، ويقوم الأشخاص في جميع أنحاء العالم بالاستماع وتأليف الموسيقى – من أكثر الدول تقدماً إلى القبائل النائية- فالموسيقى عالمية ويمكن لأي أحد أن يفهمها ويتفاعل معها بطريقة ما بغض النظر عن خلفيته الثقافية، كما أن الموسيقى تضيف طبقات من العمق والقوة للعالم من حولنا، فهي تجعل لحظاتنا المضحكة أكثر إضحاكاً، وأحياناً تجعل لحظاتنا الحزينة أكثر حزناً، ويعتقد البعض بأنها يمكن حتى أن تعزز من قدراتنا على التفكير الإبداعي.
لكن لماذا؟ وما الذي يجعل هذه الألحان والإيقاعات تؤثر فينا بهذا العمق؟
بحسب (جاد أبو مراد)، مؤسس (Radiolab)، في كثير من الأحيان، تأخذ الموسيقى شكلاً مجسماً، فعلى الرغم من أن لا شيء يحدث في الواقع، ولكنها بطريقة ما تعطيك الشعور بشيء ما، كما ويعتبر (أبو مراد) بأن الصوت والموسيقى هي الأشياء المركزية للتواصل مع الجمهور، ويوضح أن هناك شيء فريد من نوعه حول الصوت والموسيقى لا يمكن أن نحصل عليه بالضرورة من خلال مشاهدتنا لمقاطع الفيديو أو قراءة النصوص فقط، فالموسيقى تمتلك روابط أكثر شخصية وعاطفية مع كل شخص بطريقة فردية.
يمكن فهم القوة الغامضة للموسيقى بشكل أفضل من خلال تأثيرها على الدماغ البشري، واليوم، سنلقي نظرة فاحصة على الصوت، للحصول على فهم أفضل حول دوره في جعل محتوى الوسائط المتعددة أكثر فعالية، والسبب الذي يجعله جانباً أساسياً من العملية الإبداعية.
الصوت والحركة
تبعاً للباحثين في جامعة أوسلو في النرويج، فإن الأشخاص ينظرون إلى ما يسمعونه ويستخلصون منه المعاني من خلال إجراء محاكاة عقلية لحركة الجسم التي يُعتقد بأنها تشارك في صنع الصوت، لذلك فعندما تقوم بنقر قدمك على الأرض عند سماع الموسيقى، فإن ما يحدث في الحقيقة هو أن عقلك يحاول فهم الصوت، هذا ما يعرف باسم “نظرية الحركة للإدراك”.
أظهرت الدراسات أن الأنماط الشعورية المنفصلة (البصر والسمع واللمس والشم والتذوق) قد تتداخل في الدماغ بشكل أكبر بكثير مما قد ندركه في الواقع، وأن هناك الكثير من التعاون الذي يحدث بين الحواس في مراحل مختلفة من عملية المعالجة الإدراكية والمعرفية.
تظهر الأدلة على التداخل العميق بين الأنماط الحسية المختلفة بصورة أكثر إقناعاً من خلال تأثير “ماكجورك”، وهذا التأثير هو ظاهرة إدراكية حسية تجسد التفاعل بين السمع والبصر في إدراك الكلام، وهو شكل من أشكال الوهم، حيث يتم الجمع بين العنصر السمعي للصوت مع المكون البصري للأصوات المختلفة، وهو ما يؤدي إلى تصور وجود صوت ثالث.
هنا فيديو مأخوذ عن قناة الـ(بي بي سي) يمكنك من خلاله اختبار تأثير التجربة بنفسك:
في كتاب “كتيب نظرية الدماغ والشبكات العصبية”، يوضح (كارول فاولر) بأن النظريات الحركية للإدراك مهمة لأنها تسلط الضوء على العلاقة الوثيقة بين التصور والفعل، وتشير هذه النظريات إلى أن دماغنا يستخدم المناطق المسؤولة عن الحركة في الإدراك – سواء أكان ذلك للاستماع أو للرؤية أو للمس، وما إلى ذلك- وهذا مفهوم هام بالنسبة لصانعي المحتوى التفاعلي الذين يهدفون إلى التواصل بشكل فعال بطريقة تؤدي إلى الإدراك والعمل الناجح.
من جهة ثانية، فإن الموسيقى تعتبر واحدة من الأشياء التي تنشط الحواس، والتي يبدو بأنها تثير قدراً كبيراً من الحركة، وأحياناً من دون إدراك واعي، وأهمية هذا بالنسبة لإنشاء المحتوى التفاعلي هو أن الموسيقى والصوت قد يكونا أفضل الوسائل لتشكيل التصور وتوجيه العمل في مجال تسويق المحتوى.
كيف يمكن أن تشكل حركتنا مع الموسيقى أي معنى؟
في دراسة نشرت في مجلة (Nature)، اكتشف الباحثون بأن الموسيقى يمكن أن تدفعنا فعلاً للتفكير في المعاني المعينة للكلمات المرافقة لها، كما وجدت دراسة أخرى من خلال أدلة تجريبية من دراسات عصبية بأن معنى الموسيقى يتمثل في الدماغ بطريقة مماثلة لمعنى اللغة، وقد تكون الطرق التي نستخلص منها معنى الموسيقى مرتبطة بطريقة ما مع ردود أفعالنا العاطفية تجاهها، فإذا سمعنا مقطعاً موسيقياً تتخلله إيقاعات محمومة وأصوات مدوية، فقد نربط هذا اللحن مع مشاعر الغضب والارتباك – ويمكن لهذه المشاعر أن تؤثر في وقت لاحق بدلالات الكلمات التي يمكن أن يكون لها معاني مختلفة.
اكتشف علماء الأعصاب بأننا نشعر بهذه المشاعر كرد فعل على الموسيقى التي تتولد في أعمق وأقدم الأجزاء من الدماغ، وبأنها تنطوي على ذات الآليات الكيميائية (أي إفراز الدوبامين) التي تولدها المخدرات القوية مثل الكوكايين، وتشير إحدى النظريات بأن قدرة الدماغ التي لا تصدق على التعرف على الأنماط هي ما يشعل هذه العواطف القوية، وبطريقة ما، فإن المحفز الذي تقدمه الموسيقى ينشط أنماطاً معقدة من التفعيل المعرفي عبر الدماغ، مما يؤدي إلى توليد مشاعر عميقة، وذكريات حية، ورغبة قوية بنقر أقدامنا على الأرض.
يمكن للموسيقى أن تكون وسيلة فعالة لصانعي المحتوى التفاعلي، حيث تساعدهم على تعزيز إيصال نوع معين من الانفعالات والمعاني ضمن رسالة تكون أكثر تحديداً ويتم الشعور بها على مستوى أعمق، ويمكن أن تساعد أيضاً على تحفيز مراكز أدمغتنا المسؤولة عن الحركة والعمل، ولهذه الأسباب، ينبغي النظر إلى الموسيقى بطريقة لا تقل أهمية عن الفيديو والنص في استراتيجية إنشاء محتوى الوسائط المتعددة الشامل.