عندما يحاول الباحثون تشخيص وعلاج الأمراض، فإنهم غالباً ما يبحثون عن طفرة واحدة تكون هي المسببة للمشكلة على أحد الجينات، أو يبحثون عن متوسط آثار الطفرة التي أدت إلى المرض لدى مجموعة واسعة من السكان، ولكن هذه الأساليب تتجاهل التعقيدات والتفاصيل التي تتسبب حقاً في ظهور الأمراض، والتي تتضمن المعلومات الديموغرافية، والبروتينات، والتفاعلات متعددة الجينات، والآثار البيئية، ومجموعة كاملة من الجوانب الأخرى.
حتى وقت قريب، لم تكن أجهزة الكمبيوتر قوية بما يكفي لتكون قادرة على تحليل جميع هذه المعلومات الصحية، كما أنها لم تكن تمتلك مجموعة بيانات كبيرة بما يكفي لإجراء الاختبارات، ولكن التطور الذي وصل إليه الذكاء الاصطناعي (AI) سيمكنه من استخلاص التفاعلات من مجموعة كبيرة من البيانات الصحية، وذلك يعود لقدرته على التتبع السريع للجينيوم بأكمله وجمع قدر أكبر من المعلومات الجزيئية أكثر من أي وقت مضى، وبذلك قد تصبح الدقة الطبية أمراً واقعاً بفضل الذكاء الاصطناعي، لأنه من المتوقع أن يكون قادراً في يوم ما على التعرف على الخصائص الفريدة التي يمتلكها الفرد والتي يمكن أن تؤدي إلى إصابته بأمراض معينة، وذلك بالإضافة إلى كيفية التعامل معها.
هذا ما يتمحور حوله مصطلح الدقة الدوائية بالضبط، فتبعاً لـ(جيسون مور)، وهو رئيس شعبة المعلوماتية في جامعة بنسلفانيا، على اعتبار أن كل واحد منا يختلف عن الآخر، وكل شخص منا يمتلك تركيبة وراثية فريدة من نوعها، يجب أن يحصل كل شخص منا على علاج يكون مصمماً خصيصاً لتركيبته الوراثية الفردية وتاريخه البيئي الفردي، وهنا يلعب الذكاء الاصطناعي دوراً مهماً جداً، وهو القدرة على جمع العوامل الوراثية والبيئية المتعددة معاً لتحديد المجموعات الفرعية الهامة.
قدم باحثين من بينهما (مور)، نهجهما لاستخدام الذكاء الاصطناعي الصحي خلال مؤتمر الاستفادة من البيانات الكبيرة والمعرفة التنبؤية لمكافحة الأمراض في أكاديمية نيويورك للعلوم، حيث يعتمد الذكاء الاصطناعي الصحي بشكل أساسي على دفع أجهزة الكمبيوتر للتفكير في علم الجينات والأمراض والعلاجات بالطريقة التي يفعلها البشر ولكن بطريقة أسرع وأكثر قوة، وعلى نطاق أوسع.
أحد التطبيقات الأكثر إثارة للاهتمام والتي يمكن أن يوفرها الذكاء الاصطناعي هي تحديد أهداف جديدة للأدوية لم يكن باستطاعة الطرق التقليدية السابقة الوصول إليها من قبل، فعلى اعتبار إن تطوير دواء واحد يأخذ ما يصل متوسطه إلى 14 عاماً و2,6 مليار دولار، فإن شركات الأدوية تسعى لفعل كل ما في وسعها للتقليل من هذا الوقت وهذه التكلفة.
يناقش الدكتور (نيفن نارين)، وهو المؤسس المشارك، والرئيس التنفيذي للتكنولوجيا في شركة (بيوفارما بيرغ)، منصة الذكاء الاصطناعية البيولوجية التي حددت شركته من خلالها عدة أهداف للأدوية التي يجري حالياً تطويرها، وأكثر من 25 دواء آخر في طور الإعداد، حيث تعمل منصة (بيرغ) على جمع أكبر قدر ممكن من البيانات عن كل مريض، سواء من معلوماته الديموغرافية وظروفه بيئية إلى الطفرات الوراثية المحتملة لديه، من أجل إيجاد الفرصة لتطوير علاجات جديدة، وتبعاً لـ(نارين) فإن النهج الذي تتبعه منصة (بيرغ) استطاع التقليل من الوقت والمال اللازم لتطوير الأدوية بأكثر من النصف.
أضاف (نارين) أنه من خلال هذا النهج فإننا لا نقوم فقط بتقليص الوقت اللازم لإنتاج الدواء، بل أيضاً نجعل الدواء يمتلك مقداراً أكبر من التأثير، وهذه أيضاً من الخاصيات التي يجب أن تكون محل تقدير، لأنك قد تحصل على الأشياء بشكل أسرع باستخدام أساليب تطوير الأدوية الحالية، لكن هذه الأساليب لن تؤدي إلّا لمساعدة 10,000 شخص فقط، أما حالياً ومع السرعة التي يتميز بها نظام الذكاء الاصطناعي فإننا نستطيع مساعدة 10 مليون شخص آخر.
باستخدام هذا النظام من الذكاء الاصطناعي والذي يدعى (EMERGENT)، اكتشف مختبر (مور) خمسة مؤشرات حيوية جديدة يمكن أن تكون أهدافاً محتملة لأدوية زرق العين، وللقيام بذلك، أشار الباحثون بأنهم زودوا (EMERGENT) بيانات صحية تعود لـ2300 شخص من الأشخاص الأصحاء والمرضى، ومعلومات عن أكثر من 600,000 سلسة من سلاسل الحمض النووي المحددة، ومعلومات حول بعض التفاعلات الجينية المعينة، وقد كانت إحدى تسلسلات الحمض النووي الذي استطاع نظام الذكاء الاصطناعي تحديدها معروفة بتأثيرها على مرض الزرق، أما الخمسة الأخرى فقد كانت عبارة عن فرص لتطوير أدوية جديدة.
تبعاً لـ(مور) فإن فريقه يعمل حالياً على تطوير طرق أفضل لتطبيق البيانات التي تحددها أجهزة الكمبيوتر والذكاء الاصطناعي – فالنتائج لا يمكن أن تكون مفيدة ما لم يستطيع علماء الأحياء تفسير ما تعنيه وكيف يمكن استخدامها- حيث يقوم فريقه في الواقع باستخدام منصة ألعاب الفيديو التابعة لشركة (Unity Technologies) لتطوير تطبيقات قد تسمح في نهاية المطاف للباحثين بإدخال بياناتهم وخوارزميات الذكاء الاصطناعي داخل نظام الألعاب.
ولكن من ناحية ثانية، يعتقد (مور) بأن تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي ستأخذ عقدين من الزمن على الأقل قبل أن تصبح في متناول اليد وتصبح قابلة للتفسير بما فيه الكفاية لبلوغ كامل إمكاناتها، كما وأشار (نارين) بأن التطبيقات الأولى لنظام الذكاء الاصطناعي في الطب يمكن أن نصل لها في غضون الـ3 إلى الـ4 سنين القادمة، خاصة وأن إدارة الدواء الفيدرالية الأمريكية وشركات التأمين بدأت تشجع استخدام البيانات الكبيرة لاتخاذ قرارات الرعاية الصحية.
أخيراً يضيف (نارين) بأن نظام الذكاء الاصطناعي هو ما سيحول هذه المجموعة الضخمة من البيانات إلى معرفة، وسيحول المعرفة لمنتجات، كما أن أنظمة الذكاء الاصطناعي ستساعد في تسريع هذه العملية.