يعد توزيع جوائز نوبل حدثاً سنوياً ينتظره جميع المهتمين بالمجالات العلمية والسياسية والأدبية، حيث يتم فيه الكشف عن أهم الأعمال في تلك المجالات وتسليط الضوء على الأشخاص الذين كانوا أكثر ابداعاً في تلك السنة على مختلف المجالات، كما أن جميع المكتشفات والإبداعات التي تظهر في هذه المناسبة تعد بمثابة إغناء كبير في مجالها.
انطلاقاً من هذا المبدأ كان حصول البروفيسور (جون أوكيف) على جائزة نوبل في الأسبوع الماضي عن عمله في تطوير نظام لتحديد الأماكن داخل الدماغ، بمثابة دفعة كبيرة لعلم الأعصاب، حيث يعد هذا العمل بمثابة العثور على إحدى القطع العديدة المكونة للأحجية العملاقة التي تتمحور حول الدماغ وكيفية عمله، والجدير بالذكر أنه تم منح هذه الجائزة لـ (أوكيف) بالاشتراك مع فريق نرويجي مكون من زوج وزوجة (إدفارد ومايو بريت موزر) لاكتشافهما “الخلايا المكانية والشبكية” التي تسمح للفئران بتحديد المكان الذي تكون فيه، حيث تبين أن هذه الخلايا تظهر زيادةً في النشاط عند وضع الفئران في بيئة جديدة، كما يظهر هذا النشاط نفسه ولكن بصورة أسرع بكثير عندما تقوم الفئران بتكرار المسار الجديد أثناء نومها.
ولكن كيف يمكن تحويل أبحاث علم الأعصاب المتطورة إلى نصائح عملية حول كيفية اجتياز الامتحان، وتذكر أسماء، والعثور على المكان الذي تركت فيه السيارة في موقف مزدحم بالسيارات؟
من المعروف سابقاً أن تلفيف الحصين – وهو جزء من الدماغ – يشارك في الوعي المكاني عند الطيور والثدييات، وما قامت به الأبحاث الجديدة هو القاء المزيد من الضوء على الكيفية التي نميز بها المكان الذي نحن فيه وتحديد المكان الذي سنذهب إليه، ففي عام 2000، أظهرت دراسة قام بها باحثون من جامعة كلية لندن بقيادة الدكتورة (إليانور ماغواير) أن سائقي سيارات الأجرة في لندن يمتلكون تلفيفاً حصيناً ضخماً نتيجة لتنقلهم لسنوات طويلة في شوارع المدينة وتكوينهم المعرفة حولها بدقة، حيث أظهرت الفحوصات التي تم إجراؤها على سائقي سيارات الأجرة بالرنين المغناطيسي أنهم كانوا بالأصل يمتلكون تلافيفاً حصينية أكبر من الحجم المتوسط، وأن هذه المنطقة أخذت بالتضخم مع مضي المزيد من الوقت في ممارسة هذه المهنة.
بجميع الأحوال فليس بالضرورة أن يتم ترجمة الاكتشافات العلمية فور التوصل إليها إلى فوائد عملية، فعلى الرغم من أن البحوث قد تعطينا أفكاراً مهمة جداً عن الكيفية التي يعمل بها الدماغ، ولكن هذا لا يعني أن هذا قد يساعد في التوصل لإيجاد علاج لمرض الزهايمر، كما أنه لا يخبرنا لماذا تسوء حالة الإنسان الدماغية مع تقدمه بالسن، فمازلنا بحاجة لمعرفة السبب الذي يجعل الخلايا العصبية تموت عند الإصابة بالخرف، وكيف تنشأ السكتة الدماغية التي تؤدي إلى الكثير من الأضرار على الخلايا العصبية، دون أن تسبب فقداناً للذاكرة، وما هو الرابط بين مرض باركنسون والخرف؟ أي بعبارة أخرى لماذا تصاب بعض الخلايا دون سواها بالتلف؟
يعد هذا البحث القائم على أسس مخبرية بمثابة المفتاح لحل أحجية الآلية التي يعمل بها الدماغ وما الذي يحدث عندما يتوقف عن العمل، فإجراء المسح أو الفحوصات بعد الوفاة لأدمغة الأشخاص الذين كانوا يعانون من الخرف ليس لها تلك القيمة الكبيرة، وذلك لأن تدهور الدماغ يبدأ قبل 10- 20 سنة من بدأ ظهور الأعراض، لذا ما الذي يمكن لعلم الأعصاب أن يقدم لنا من معرفة يمكن أن تفيدنا في الحفاظ على أدمغتنا في حالتها الجيدة؟
– استخدام الدماغ لأقصى درجة :
يشير الباحثون إلى أن الطريقة الأولى التي يجب اتباعها للحفاظ على الدماغ في حالته الجيدة هي استخدامه لأقصى درجة، حيث يبدو من الواضح أنه كلما زاد استخدامنا وتدريبنا للدماغ ووضعنا له تحت الاختبارات، كلما أصبح أداءه أفضل، حيث أظهرت الأدلة أن الأشخاص الذين يمتلكون مستويات عالية من التعليم أو المهارات كانت معدلات الخرف لديهم أقل من غيرهم، ولكن هذه الأدلة مازالت غير دامغة، فربما يكون هؤلاء الأشخاص المثقفين يتناولون طعاماً صحياً أكثر من غيرهم، وقد يكون الأشخاص الذين يمتلكون للمهارات الجيدة أكثر ممارسة للتمارين الرياضية وأكثر تفاعلاً مع المجتمع، وبالرغم من أنه لا يمكن لأحد أن يأكد فوائد التمرين المستمر للعقل، ولكنه على الأقل لا توجد أي جوانب سلبية للعب السودوكو، أو حل الكلمات المتقاطعة، أو القراءة، أو التكلم أثناء المشي.
– تناول أدوية الأعصاب :
الوسيلة الثانية التي يمكن من خلالها الحفاظ على صحة الدماغ هي تناول الأدوية الداعمة للأعصاب، والتي تعرف أيضاً بإسم العقاقير الذكية أو المحسنات المعرفية، ومن أشهرها دواء يدعى بالـ (مودافينيل)، وهو دواء يعمل على تعزيز اليقظة، حيث يقوم بتحفيز الجهاز العصبي المركزي، والمكان الوحيد الذي يقوم بصرف هذه الوصفة هي المملكة المتحدة وذلك لمعالجة حالات النعاس المفرط أثناء ساعات النهار، وعلى الرغم من أن قوة تأثير هذا الدواء مازالت قيد النقاش، إلّا أن المؤكد أن تأثير هذه الأدوية أقوى وأطول بكثير من تأثير فنجان القهوة، والجدير بالذكر أن (مودافينيل) يستخدم بشكل واسع من قبل الأكاديميين والطلاب لأنه يجعلهم يشعرون بأن أذهانهم تصبح أكثر وضوحاً وأكثر يقظة، كما تبين أن الجراحين (وهم أكثر الأشخاص المحرومين من النوم) يصبح أداؤهم أفضل عند تناول هذا الدواء، كما يمكن أن يكون لهذا الدواء تأثير في تحسين الذاكرة والوظائف العقلية، حيث وجد أن الـ (مودافينيل) يحسّن من الدوافع الفكرية، كما يحسن من وظيفة الذاكرة لدى الأشخاص الأصحاء، ويجعل القيام بالمهام أمرا أكثر متعة، ولكن نعود لنكرر بأنه لم يثبت بعد أن هذا الدواء آن تماماً للاستخدام حتى الآن.
– الابتعاد عن السموم العصبية :
إضافة إلى ما سبق يجب علينا الابتعاد عن السموم العصبية الموجودة في البيئة التي تحيط بنا وتضر بمورثاتنا وبالبروتينات والجزيئات الصغيرة التي تعد أساساً لبناء وصيانة أدمغتنا، حيث بينت الدراسات أن هناك ثلاثة أنواع من السموم العصبية التي يمكن أن تؤثر على الأدمغة الفتية، وهي أولاً المواد الكيميائية التي توجد في البيئة مثل الرصاص والزئبق والفوسفات العضوية (المبيدات)، وثانياً العقاقير المنشطة مثل الكحول والنيكوتين والكوكايين، وأخيراً وصفات الأدوية مثل روأكيوتان التي تستخدم لعلاج حب الشباب، وعلى الرغم من أن العقول الناضجة تكون أكثر مرونة وذلك يرجع إلى وجود حاجز من الخلايا التي تمنع دخول المواد الكيميائية من مجرى الدم إلى أنسجة الدماغ، إلّا أن المخدرات والكحول والسجائر تعتبر سامةً حتى لأكثر الأدمغة تطوراً، خاصة إذا كانت هذه المواد تؤخذ بكميات كبيرة.
– الحفاظ على سلاسة تدفق الدم للدماغ :
هناك المزيد من الوسائل الأخرى التي يمكن من خلالها الحفاظ على أدمغتنا، كالتأكد من استمرار تدفق الدم إلى الدماغ، فالدماغ يحتاج إلى كمية كبيرة من الدم لتصل إليه المواد الغذائية والأكسيجين اللازمين له ولتخليصه من النفايات التي ينتجها، فالتدخين، وارتفاع ضغط الدم، ومرض السكري غير المنضبط، والسمنة وارتفاع الكوليسترول في الدم، كلها تتجمع في الشرايين وتمنع تدفق الدم إلى الدماغ، لذلك حاول الابتعاد عن كل تلك المواد التي يمكن أن تسبب مثل هذه المشاكل، ومن جهة ثانية فإن اتباع نظام غذائي سليم يمكن أن يحسن من صحة الدماغ، فأحماض أوميغا 3 الدهنية، ومضادات الأكسدة مثل فيتامينات C و E، وفيتامينات B و D كلها تحسن من عمل الأعصاب، كما أن الإكثار من تناول المكملات الغذائية يمكن أن يحمي من الإصابة بالخرف.