قد يكون من الصعب بما فيه الكفاية أن يتعلم شخص لغة أجنبية واحدة، ولكن في برلين يجتمع حوالي 350 شخصاً أو حتى أكثر من الذين يتكلمون لغات متعددة– ومنها النادرة أيضاً مثل لغة جزيرة مان، والكلينغونية والسامية، ولغة رعاة الرنة في الدول الاسكندنافية – في (لقاء بوليغلوت)، ففي الواقع، هناك بعض منهم مثل (تيم كيلي) و(دانيال كراسا) يمكنهم التحدث بـ10 لغات على الأقل، كما يمكن القول أن أحد اللغويين الأكثر كفاءة في الاجتماع، كان (ريتشارد سيمكوت)، وهو قائد فريق من اللغويين في شركة تدعى (eModeration)، حيث أنه يستطيع التكلم بحوالي 30 لغة، ولكن ما هو سر هؤلاء الأشخاص، وكيف يمكنهم التحدث بجميع هذه اللغات المختلفة؟
عند النظر إلى هذا التحدي من زاوية الدماغ، لا يعود من المستغرب أن يجد معظمنا تعلم لغة جديدة أمراً معقداً للغاية، فنحن نمتلك العديد من أنظمة الذاكرة المختلفة، وإتقان لغة مختلفة يتطلب وجود وعمل جميع تلك الأنظمة معاً، فهناك الذاكرة الإجرائية، وهي التي تبرمج العضلات لإتقان المهام –وهي في هذه الحالة اللكنات- المختلفة، والذاكرة التقريرية، وهي القدرة على تذكر الحقائق –وفي هذه الحالة تذكر ما لا يقل عن 10,000 كلمة جديدة إذا كنت تريد أن تقترب من التكلم باللغة الجديدة بطلاقة، ناهيك عن قواعد اللغة- وبالإضافة إلى ذلك، القدرة على استحضار الكلمات والتركيبات الجديدة خلال أجزاء من الثانية، وهذا يعني أنه يجب أن تكون الكلمات مبرمجة ومضمنة في كل من الذاكرة الصريحة والضمنية.
يمكن النظر إلى القدرة على التحدث بعدة لغات من زاوية التدريب العقلي الذي تنجم عنه الكثير من الفوائد، فهو على أي حال أفضل تدريب عقلي يمكنك أن تجربه، حيث أظهرت العديد من الدراسات أن القدرة على تكلم لغات متعددة يمكن يحسّن من الانتباه والذاكرة، كما يمكنه المحافظة على الإدراك مما يساعد على تأخير ظهور علامات الخرف، فمن خلال تحليل تجارب المهاجرين، وجدت (إلين بياليستوك) من جامعة يورك في كندا بأن تحدث لغتين ساهم في تأخير تشخيص الخرف لفترة خمس سنوات، في حين أن الذين يجيدون التحدث بثلاث لغات، تأخر تشخيص الخرف لديهم لـ6.4 عام مقارنة بغيرهم من الذين لا يعرفون سوى لغة واحدة، وبالإضافة إلى ذلك، كان الأشخاص الذين يجيدون أربع لغات أو أكثر، يتمتعون بتسع سنوات إضافية من الإدراك السليم.
الفوائد المستدامة لتعلم اللغات تظهر بأن هذه القدرة أفضل بأشواط من معظم ألعاب “تدريب العقل” التجارية التي يمكن تنزيلها من الإنترنت – والتي تفشل عموماً في تقديم تحسينات طويلة الأجل للذاكرة أو الانتباه.
حتى وقت قريب، كان الكثير من علماء الأعصاب يعتقدون بأن معظمنا قد أصبح كبيراً بالعمر للوصول لدرجة إجادة لغة جديدة بمقدار إجادته للغته الأم، وذلك اعتماداً على “فرضية الفترة الحرجة”، التي تقول بأن هناك نافذة ضيقة خلال مرحلة الطفولة يمكننا خلالها التقاط الفروق الدقيقة في اللغة الجديدة، ولكن أبحاث (بياليستوك) تشير إلى أن هذا قد يكون مبالغاً فيه، لأن قدرتنا على تعلم لغات جديدة تنخفض بشكل طفيف جداً مع تقدمنا في العمر.
مما لا شك فيه بأن العديد من الأشخاص الناطقين للغات متعددة قد أتقنوا هذه اللغات وتعلموها في وقت لاحق في حياتهم وليس في فترة طفولتهم، فمثلاً، كان (كيلي) قد شب في ولاية فلوريدا، حيث كان يتعامل أحياناً مع الناطقين باللغة الاسبانية الأصلية في المدرسة، كما أنه عندما كان طفلاً كان معتاداً على الاستماع إلى محطات الراديو الأجنبية – على الرغم من عدم قدرته على فهم كلمة واحدة – حيث أنه يشير إلى أن الاستماع إلى هذه المحطات كانت مثل الموسيقى بالنسبة له، ولكن عندما شب بدأ بالسفر حول العالم، وكانت محطته الأولى كولومبيا، حيث درس الفرنسية والألمانية والبرتغالية في الكلية، ثم انتقل إلى سويسرا وأوروبا الشرقية قبل أن يتوجه إلى اليابان، وهو الآن يتحدث ما لا يقل عن 20 لغة بطلاقة، وقد تعلمها كلها تقريباً عندما أصبح بالغاً.
ولكن السؤال يبقى، كيف يمكن لهؤلاء الأشخاص أن يجيدوا الكثير من اللغات الجديدة، وهل يمكن لنا محاولة الاقتداء بهم؟
لا بد أولاً من الاعتراف بأن هؤلاء الأشخاص يمتلكون حماسة لتعلم اللغات أكثر من معظمنا، فالكثير منهم، ومن بينهم (كيلي)، ينتقلون كثيراً من بلد إلى بلد، وهذا يسمح لهم بالتقاط اللغات أثناء مرورهم بالبلدان المختلفة، ولكن حتى ولو توافرت النية والإصرار، فإن الكثير منا يجد صعوبة ومعاناة شديدتين ليتحدث بلغة أخرى بشكل طليق.
(كيلي)، الذي يعمل حالياً على كتابة بحث حول “العوامل الاجتماعية والنفسية والوجدانية التي تساهم في جعل الشخص متعدد اللغات”، يشكك بأن يكون الأمر مجرد مسألة ذكاء بحت، حيث يشير إلى أنه لا يعتقد بأن الذكاء هو أمر رئيسي في تعلم اللغات الجديدة، وذلك على الرغم من أنه قد يعجل من القدرة التحليلية للغة الجديدة عند الشخص.
الحرباء الثقافية
بدلاً من ذلك، يعتقد (كيلي) بأننا بحاجة للبحث والتوجه إلى أعماق شخصيتنا، فتبعاً لنظريته، تعلم لغة جديدة يؤدي لإعادة ابتكار شخصيات جديدة أيضاً – فاللغويون الجيدون عادة ما يكونون أفضل الأشخاص في تبني هويات جديدة- وبذلك “يمكنك أن تصبح حرباء ثقافية”.
لطالما اعتقد علماء النفس بأن الكلمات التي نتحدث بها تتشابك مع هويتنا، فمن المعروف مثلاً بأن تحدث الفرنسية يجعلنا أكثر رومانسية، أو أن تحدث الإيطالية يجعلنا أكثر عاطفية، ولكن ذلك قد يكون راجعاً لكون كل لغة ترتبط مع معايير ثقافية يمكن أن تؤثر على الكيفية التي نتصرف بها، والأهم من ذلك، هو أن الدراسات المختلفة وجدت بأن الأشخاص الذين يتحدثون لغات متعددة غالباً ما يتبنون سلوكيات مختلفة وفقاً للغة التي يتكلمون بها.
يمكن للغات المختلفة أيضاً استحضار ذكريات مختلفة من حياتك، فتبعاً لـ(أنيتا بافلينكو) من جامعة تمبل في فيلادلفيا، صاحبة كتاب “عقل ثنائي اللغة”، عندما كان الكاتب الروسي الأصل (فلاديمير نابوكوف) يعمل على كتابة سيرته الذاتية، كتبها أولاً بلغته الثانية وهي الإنجليزية، ولكن بمجرد أن تم نشرها أخيراً، قرر أن يترجم مذكراته مرة ثانية إلى لغته الأم، ولكن عندما بدأت الكلمات الروسية تتدفق إلى رأس الكاتب، بدأت معها ذكرياته تظهر بتفاصيل وآفاق جديدة، لدرجة أصبحت النسخة الروسية من سيرته الذاتية تختلف عن الأصلية التي كتبها باللغة الإنجليزية، حتى أنه شعر بالحاجة إلى إعادة ترجمة النسخة الروسية إلى الإنجليزية، وبهذا أصبح الكاتب وكأن له شخصيتان مختلفتان، إحداهما إنجليزية والأخرى روسية.
تبعاً لـ(كيلي)، وهو أستاذ في جامعة كيوشو سانغيو في اليابان، فإن مقاومة عملية إعادة الابتكار قد تمنعك من تعلم لغة أخرى بشكل جيد، حيث قام (كيلي) بإجراء بحث حول “نفاذية الأنا” لدى متحدثي اللغة الصينية الذين يتعلمون اليابانية، وكان يتضمن الإجابة بنعم أو لا على العديد من الخيارات المختلفة، مثل “أجد أنه من السهل أن أضع نفسي في مكان الآخرين وأتخيل كيف يشعرون” أو “أستطيع أن أقلد انطباعات الأشخاص الآخرين”، أو “أستطيع أن أغيّر رأيي بسهولة ليتناسب مع الأشخاص القريبين مني”، وبنتيجة البحث وجد (كيلي) بأن الطلاب الذين كان لديهم نسبة أكبر من هذه الصفات، كانوا أكثر قدرة على إجادة اللغة الجديدة.
ولكن كيف يحدث هذا؟
من المعروف أنه عندما يماثل الشخص شخصاً آخر، يصبح أكثر قدرة على تقليده، ويبدو أن هذه العملية من شأنها أن تحسن من تعلم اللغة بدون بذل أي مجهود يذكر، ومن جهة ثانية، فإن الهوية الجديدة المعتمدة، والذكريات المرتبطة بها، قد تمنعك من الخلط بين اللغة الجديدة ولغتك الأم، وذلك عن طريق بناء حواجز عصبية بين اللغتين، حيث يجب أن يكون هناك نوع من الأماكن المخصصة في ذهنك لكل لغة ولكل ثقافة والتجارب المرتبطة بهما، وذلك لكي تبقى اللغات نشطة ولا تختلط جميعها مع بعضها البعض، ومن خلال ذلك، يمكن القول إن كمية الوقت الذي تقضيه في التعلم واستخدام اللغات لا يهم بمقدار نوعية الوقت الذي تبذله في سبيل ذلك، أي مقدار العاطفة التي ترتبط بتعلم اللغة، وهذا بالطبع يمكن أن يفسر السبب الذي يسمح للأشخاص متعددي اللغات أن يقلّبوا بين 20 لغة من اللغات التي يتقنونها في ذات الوقت وبدون عناء.
تبعاً لـ(مايكل ليفي هاريس)، وهو ممثل يجيد 10 لغات ويمتلك القدرة على فهم 12 لغة أخرى، فإن أي شخص يمكنه أن يتعلم كيف يتبنى شخصية ثقافية جديدة، وذلك عن طريق محاولة التقليد دون أخذ كيفية تهجئة الكلمات بعين الاعتبار، حيث أنه بإمكان الجميع الاستماع إلى شيء ما ومحاولة تكراره، وحتى وإن وجدت نفسك أثناء العملية تبالغ في اللفظ أو الأصوات – كما يبالغ الممثل في تمثيله قليلاً على المسرح – فلا تقلق، فهذا جزء مهم أيضاً من هذه العملية، ففي التمثيل يقوم الممثل أولاً بأداء الدور بشكل مبالغ به، عندها يقول المخرج، “هذا جيد ولكن لنجعل ذلك أقل حدة”، وهذا تماماً ما عليك فعله مع اللغة، كما يشير (هاريس) إلى ضرورة محاولة محاكاة تعابير الوجه أيضاً، حيث أن هذا قد يكون أمراً ضرورياً لإنتاج الأصوات، فمثلاً، زم الشفاه قليلاً عند التحدث قد يجعلك تبدو على الفور وكأنك تتحدث الفرنسية.
يشير (هاريس) إلى أهمية محاولة التغلب على الإحراج المتلازم بإنتاج الأصوات “الغريبة” عندما تتكلم لغة جديدة، حيث يتوجب عليك أن تدرك أنها ليست غريبة على أي حال، فإذا كنت تقر وتعطي اللاوعي لديك الإذن للقيام بذلك أثناء التكلم، سيمكنك عندها إصدار جميع الأصوات، وعلى الرغم من أن هذا قد يبدو سخيفاً بعض الشيء، إلّا أن هذا ينبغي أن يساعدك على تخطي موانعك الطبيعية وامتلاك لغة جديدة، تماماً كما يفعل الممثل عند محاولة إقناع الجمهور بأن الكلمات التي يتلفظ بها هي كلماته بالفعل.
على الرغم من ذلك، فإن معظم الخبراء في هذا المجال يتفقون على أنه لا ينبغي أن نكون متفائلين للغاية، وخاصة عند البدء بتعلم اللغة، فإذا كان هناك عامل واحد يمنع الأشخاص من تعلم اللغة بشكل جيد، فهو أنهم يشعرون بأنهم ينبغي أن يتحدثوا بتلك اللغة تماماً كما يفعلون مع لغتهم الأم، ولكنه معيار لا يمكن الوصول إليه بسهولة، فتبعاً لـ(بافلينكو)، سهولة التعبير باللغة التي يتم تعلمها هو فعلاً ما يهم.
إلى جانب هذه الخطوات، سيكون من المفيد أن تتدرب على اللغة لفترات أقل ولكن لمرات أكثر في اليوم، فمثلاً أربع مرات في اليوم على مدى 15 دقيقة في كل مرة قد تكون فكرة جيدة، حتى وإن كنت مشغولاً جداً أو متعباً لدراسة اللغة بشكل جدي، فإن إجراء بعض الحوارات مع الأشخاص الآخرين أو الاستماع إلى أغنية أجنبية باللغة التي تريد تعلمها يمكن أن يساعدك في ذلك.
أخيراً تجدر الإشارة إلى أنه وإلى جانب الفوائد الكبيرة التي يمكن أن يوفرها تعلم اللغات الجديدة للعقل، فإن هناك فوائد مدهشة أخرى قد تكتسبها عن طريق الانغماس الكامل في اللغات المختلفة، بما في ذلك إتاحة الفرصة لتكوين صداقات جديدة عبر الحواجز الثقافية الصعبة.