كم من الوقت يمكننا أن نبقى مستيقظين؟
إذا ما قمنا ببعض الحسابات البسيطة سندهش عندما نعرف كيف يقضي الإنسان حياته، فعندما يصل الإنسان إلى سن الـ78، سيكون قد قضى تسعة سنوات من حياته في مشاهدة التلفزيون، وأربع سنوات وهو يقود السيارة، و92 يوماً في الحمام، ولكن هذه النشاطات جميعاً لا تشكل شيء إذا ما قورنت مع الوقت الذي يستغرقه الإنسان في النوم، فتبعاً للحسابات فإن الإنسان الطبيعي عند بلوغه سن 78 يكون قد أنفق 25 سنة منها في النوم، ولكن في محاولة منا لاسترجاع بعض هذا الوقت تظهر أمامنا بعض التساؤلات، فمثلاً ما هو مقدار الوقت الذي يمكننا فيه البقاء مستيقظين – وما هي النتائج المترتبة على البقاء دون نوم؟
تشير (ايرين هانلون)، وهي أستاذة مساعدة في مركز الصحة والنوم والتمثيل الغذائي في جامعة شيكاغو، أن أي محاولة من قبل أي فرد صحيح الجسم لمعرفة مقدار الوقت الذي يمكنه البقاء فيه من دون نوم ستكون صعبة جداً، حيث أن الدافع للنوم سيصبح أقوى حتى من الدافع لتناول الطعام، وفي النهاية سيذهب الدماغ إلى النوم رغم كل الجهود التي يمكن لأي أحد أن يبذلها لإبقائه في الحالة الواعية.
ولكن لماذا يجب على الإنسان أن ينام أصلاً؟
تبعاً لـ (هانلون) ما يزال السبب الذي يجعل الرغبة في النوم قوية جداً لغزاً يحير العلماء، حيث أن الوظائف التي تتحكم بعملية النوم لا تزال بحاجة إلى المزيد من التوضيح، ولكن مع ذلك، يبدو أن هناك شيء حول النوم يقوم بـ “إعادة ضبط” الأنظمة في أجسامنا، بل وبالإضافة إلى ذلك، فقد أظهرت الدراسات أن النوم الروتيني الكافي يعزز من عملية الشفاء، ويعزز أيضاً من وظائف المناعة، ويساعد الجسم على القيام بالتمثيل الغذائي بطريقة سليمة، والكثير من الأمور الأخرى – وهو ربما السبب الذي يجعلنا نشعر بالارتياح بعد أخذ قيلولة طويلة في فترة بعد الظهر.
من جانب آخر، تم ربط عدم أخذ القسط الكافي من النوم مع التعرض لمخاطر أكبر من الإصابة بمرض السكري، ومشاكل في القلب، والإصابة بالسمنة، والاكتئاب والعديد من الأمراض أخرى، ولتجنب هذه النتائج الأخيرة، يقوم جسمنا بإعطائنا بعض التنبيهات التي تتمثل بالأحاسيس الغير مريحة عندما يصبح بحاجة ماسة للنوم، فمثلاً نشعر بأننا أصبحنا نفتقر للطاقة، ونشعر بالدوار، وتصبح جفوننا ثقيلة وعيوننا تؤلمنا، وإذا ما واصلنا في محاربة النوم، عندها سنفقد قدرتنا على التركيز وتشكيل الذكريات القصيرة الأمد.
أما إذا قاومنا كل هذه الآثار الجانبية وبقينا مستيقظين لعدة أيام، فإن عقولنا ستصاب في النهاية بالعته، وسيصبح مزاجنا متقلباً جداً، وقد نصاب بالقلق، ونرى أشياء لا حقيقة لها، وحتى أن بعض الأشخاص قد يبدؤون بالهلوسة ويصابون بنوع ضعيف من الجنون، وهذه الظاهرة غالباً ما تظهر لدى سائقي الشاحنات الذين يقودون لمسافات طويلة حيث أنهم يبدؤون بتخيل رؤية كلاب سوداء أمام ناظرهم بمجرد رؤيتهم لأي خيال أسود على الطريق.
يشير (أتول مالهوترا)، وهو مدير قسم طب النوم في جامعة كاليفورنيا، أن العديد من الدراسات كانت قد وثقت حدوث انهيار في الجسم مترافق مع الحرمان من النوم، حيث أنه يحدث زيادة في إفراز هرمونات التوتر مثل الأدرينالين والكورتيزول في الدم، وهذا بدوره يرفع ضغط الدم، وفي الوقت ذاته، تخرج ضربات القلب عن السيطرة ويتعثر جهاز المناعة، لذلك فإن الأشخاص الذين يُحرمون من النوم يشعرون بالقلق ويصبحون أكثر عرضة للإصابة بالأمراض.
ولكن مع ذلك، فإن جميع تلك المشاكل التي تحدثها نوبة من الأرق أو الحرمان من النوم لبضعة ليالي يمكن أن تختفي بعد أخذ قسط كافي من النوم، مما يعني أن أي ضرر قد يحدث نتيجة لذلك يكون قابلاً لأن يتم عكسه، وهذا تبعاً لـ (جيروم سيغل)، وهو أستاذ في مركز أبحاث النوم في جامعة كاليفورنيا في لوس انجليس.
ولكن ماذا لو لم يستطع شخص ما النوم أبداً؟ إن مثل هذا الأمر يمكن أن يحدث لدى الأشخاص المصابين بمرض وراثي نادر يسمى الأرق الوراثي المميت (FFI)، وهذه الحالة توفر واحدة من الصور الأكثر وضوحاً من عواقب الإصابة بالأرق الشديد.
هناك ما لا يزيد عن 40 عائلة فقط في جميع أنحاء العالم تحمل مرض الـ (FFI) في جيناتها، والمسبب الرئيسي لهذا المرض هو إصابة أحد الجينات بعيب معين يؤدي إلى حدوث خطأ في تحول البروتينات في الجهاز العصبي إلى بريونات غير قادرة على تأدية وظائفها الطبيعية، والبريونات هي بروتينات ذات أشكال غريبة تسبب المشاكل لدى هؤلاء الأشخاص، فهي تتجمع في الأنسجة العصبية، وتعمل على قتلها وتشكيل ما يشبه الثقوب التي توجد في الجبنة السويسرية داخل الدماغ، وإحدى أكثر المجالات التي تتضرر بشدة ولا سيما لدى الأشخاص الذين يعانون من الـ (FFI) هي منطقة المهاد، وهي منطقة الدماغ تسيطر على النوم، وبالتالي فإن هذا يتسبب بحدوث الأرق لديهم.
إن الأشخاص المصابين بهذا المرض يصابون فجأة بالأرق، ويبقون مستيقظين لأيام عديدة ومتواصلة دون راحة، مما يؤدي إلى ظهور أعراض غريبة لديهم في البداية، تتطور بعد بضعة أسابيع، ليدخل مريض الـ (FFI) في نوع من شفق ما قبل النوم، حيث يبدو وكأنه يمشي وهو نائم ويختبر تشنجات وحركات عضلية غير طوعية تحدث لدى العديد منا في بعض الأحيان أثناء النوم، ومن ثم يلي ذلك فقدان الوزن والعته، وفي نهاية المطاف الموت.
ولكن يشير (سيغل) بأنه لا يعتقد أن الأرق بحد ذاته هو ما يسبب الموت، وذلك لأن مرضى الـ (FFI) يصبحون فيما بعد مصابين بتلف في الدماغ على نطاق واسع، ولكن السجناء الذين يتم تعذيبهم عن طريق استخدام تقنية الحرمان من النوم لا يعانون من تلك النتائج ولا تؤدي هذه الطريقة إلى موت أي أحد (على الرغم من أنها تؤدي إلى معاناة فظيعة على مستويات أخرى).
من جهة ثانية فقد أظهرت التجارب التي تم إجراؤها على الحيوانات أن هناك أدلة متزايدة تشير إلى أن الحرمان من النوم في قد لا يكون مميتاً بحد ذاته، ولكنه قد يؤدي إلى نتائج قد تكون مميتة، ففي الدراسات التي قام بإجرائها (ألان ريتشتسافين) من جامعة شيكاغو في ثمانينيات القرن الماضي، والتي اشتملت وضع الفئران على أقراص فوق صفيحة من الماء، ومنعها من النوم عن طريق الإلقاء بها في الماء كلما حاولت أخذ قيلولة صغيرة، وبعد حوالي شهر من التجربة تبين أن جميع الفئران التي شاركت في الدراسة ماتت، ولكن السبب في موتها لم يكن واضحاً تماماً، وعلى الأرجح أن السبب الأساسي في ذلك هو التوتر الذي أصاب الفئران جراء إيقاظها بشكل مستمر – ما معدله ألف مرة في اليوم – ومن بين الأعراض الأخرى التي أظهرتها الفئران، كان حدوث تغيرات في درجة حرارة الجسم وفقدان الوزن رغم زيادة الشهية.
كل هذه الحالات السابقة الذكر قد تمنع العديد من الأشخاص من استكشاف حدود قدرتهم على البقاء دون نوم، ولكن يبقى السؤال المطروح هنا، كم من الوقت يمكننا البقاء مستيقظين؟ تشير السجلات إلى أن أطول مدة تم ذكرها لشخص استطاع البقاء مستيقظاً بشكل تطوعي كانت من نصيب (راندي غاردنر)، وهو طالب بالمرحلة الثانوية يبالغ من العمر 17 عاماً من سان دييغو-كاليفورنيا، حيث كان الغرض من بقائه مستيقظاً القيام بمشروع لمعرض علمي في عام 1964، ويقول العلماء الذين راقبوه خلال مدة التجربة أن (غاردنر) لم ينم لمدة 264 ساعة متواصلة، أو ما يزيد قليلاً عن 11 يوم.