بمجرد أن تحطّ الرحال في العاصمة البريطانية لندن، فإن أوّل ما سيصدمك هو رائحة الديزل الخانقة، ومشهد الضباب المفعم بالغبار الذي يغطّي أجواء المدينة، وبعد فترةٍ وجيزةٍ هناك، ستعاني –على الأغلب- من ضيق التنفس والسعال بانتظام.
وإذا قررنا مراقبة مستويات جودة الهواء في المدينة، فإننا سنحصل على بياناتٍ -أقلّ ما يقال عنها أنها مروعة، فالهواء في لندن ملوّثٌ وغير قانوني، وقد ورد أنه أسوأ حتى من هواء بكين، وفقا للإحصائيات التي نشرها مكتب رئيس بلدية لندن عام 2010.
أكثر من 9 آلافٍ شخصٍ من سكان العاصمة البريطانية يموتون قبل الأوان كل عامٍ بسبب الهواء الملوث، الذي تتسبب وسائل النقل في أكثر من نصفه، علمًا بأن المركبات العاملة على الديزل تتسبب في نحو 40% من التلوث الناجم عن وسائل النقل.
ومع ذلك، لا يدرك العديد من سكان لندن مدى خطورة المشكلة، التي وصفها مكتب عمدة المدينة بالأزمة الصحية، وهو السبب الذي دعا الفنان البريطاني مايكل بينسكي لإقامة معرضه الفنّي التثقيفي، الذي حمل عنوان: pollution pods أي قباب التلوث، حيث أنشأ 5 قبابٍ منحنيةٍ على أرض مركز الفنون Somerset House وسط لندن، واستخدم تقنيّاتٍ كيميائيّةٍ آمنةٍ بهدف خلق 5 أجواءٍ مختلفةٍ داخل القباب، تحاكي أجواء 5 مدنٍ مختلفةٍ، هي: لندن، بكين، نيودلهي، ساو باولو البرازيلية، وجزيرة توترا النرويجية.
وأعرب الفنان عن أمله في أن يعاين الناس عن طريق معرضه، مستويات التلوث في عدّة بقاعٍ من العالم، مما سيحفز جهودهم لتحريك ركود مشكلة التلوث العالمية، وعمل شيءٍ ما حيالها، حيث قال في مقابلةٍ تلفزيونيّةٍ أثناء المعرض:
“بعض اللوحات الرمزية التقليدية، كدببةٍ قطبيةٍ تغرق في أنهارٍ جليديةٍ ذائبة، أو أطفالٍ يموتون جوعًا في الصحارى الإفريقية، تؤثر في الناس بشدة، ولكنها تتركهم في حيرةٍ شديدةٍ لا يدرون معها بما عليهم فعله، ولإحداث تغييرٍ ملموسٍ في سلوك الناس، فعليك اختيار شيءٍ يمس حياتهم اليومية، لذا اخترت أن أقيم معرضًا كهذا في لندن، فالتلوث شيءٌ نشعر به كل يوم”.
معظم زوار المعرض الذي صادف إقامته ذكرى يوم الأرض Earth Day، كانوا يشعرون بالفضول لمعرفة مدى تلوث لندن مقارنة بالمدن الأخرى، حيث تبدأ الجولة من قبة جزيرة توترا النرويجية، التي تشعر داخلها بالهواء الخفيف والنظيف، ثم تنتقل إلى لندن، حيث تشعر على الفور بدغدغةٍ في أنفك من رائحة الديزل، وفي نيودلهي، تشعر بفقدان حواسك حين تسير عبر الضباب الدخاني الكثيف ذي الرائحة الكريهة، لدرجةٍ تجعلك تشعر بالانتعاش بمجرد تجاوزها نحو قبة بكين المليئة بالضباب، وعندما تصل إلى قبة ساو باولو، ستشعر بأنك أصبحت في حاجةٍ ماسةٍ للخروج.
إنه أمرٌ خطير
الغالبية العظمى من زائري قباب السيد بينسكي، إما أشاحوا بوجوههم أو غطوا أنوفهم بمجرد تنفسهم رائحة الديزل، وكثيرٌ منهم دخل في نوباتٍ من السعال أو العطاس، كما بكى بعض الأطفال وهربوا بعد دخول القباب.
ماريا جونز، ذات ال 35 عامًا، وهي من سكان لندن منذ 10 سنوات، قالت عن التلوث:
“إنه أمرٌ سيءٌ قد لا نلاحظه بسبب انتشاره كثيرًا، ولكن إذا كان بهذه الدرجة من السوء فهو أمرٌ خطير، ويجب أن نشعر حياله بالقلق”.
أما آنا ويستون، وهي محاميةٌ مساعدةٌ تبلغ من العمر 24 عامًا، انتقلت مؤخرًا من الريف إلى لندن، فتقول:
“إن التلوث في المدينة غير مرئي، ولكني لاحظت ذلك من خلال آثاره على جسمي، ففي الصباح أسعل كثيرًا، وعندما أفرغ أنفي أجد نخاعةً قاتمة”.
وبدورها، عانت ميريديت بيستولكا ، ذات ال26 عامًا، والتي انتقلت من فلوريدا إلى لندن هذا العام ، من نوبات عطاسٍ حتى بعد مغادرتها القباب، وقالت بأن كلًا من لندن وفلوريدا يتميز بنوعية هواءٍ مختلفة، وأضافت بأنها لا تستطيع ممارسة الجري في لندن، فقد حاولت وكادت تموت من السعال، وأخيرًا أوضحت بأنها قامت مع صديقها مؤخرًا، بشراء عدة نباتاتٍ للمساعدة في تحسين نوعية الهواء في شقتهما.
وقالت مادلين كوربيت، طالبة الطب التي زارت القباب للمرة الثانية:
“لا أعتقد أن سكان لندن يدركون مدى سوء المشكلة، فالسياسيون لا يتحدثون عن القضية إلا حين تكون في ذروتها، وبعدها ينسى الناس بسرعة.. نحن بحاجةٍ إلى مزيدٍ من المعارض كهذا لجعل القضية مرئيةً للجمهور”
العلم البريطاني الأسود!
يقول السيد بينسكي صاحب المعرض، بأن تجارب الناس في القباب كانت ذاتية، واعتمدت على مستويات التلوث التي يتعرضون لها يوميًا، وذكّر بتجربة زوجين قادمين من الريف الإيرلندي، قاما بوضع كمامةٍ بمجرد الدخول إلى قبة نيودلهي ثم اضطرا إلى الخروج على الفور.
ويضيف بينسكي بأن الأجواء داخل القباب مسيطرٌ عليها، وتحتوي على مستوياتٍ مختلفةٍ من الأوزون والجسيمات الدقيقة وثاني أكسيد النيتروجين وثاني أكسيد الكبريت وأول أكسيد الكربون، ويؤكد أنه اختار لإقامة معرضه مبنى Somerset House، لأنه لا يحتوي على أي مظاهر طبيعية، حيث بني خصيصًا ليبرهن بأن البشر قادرون على صنع ما هو أجمل من الطبيعة.
وللاحتفال بيوم الأرض، رفع المبنى الذي استضاف المعرض علمًا جديدًا لبريطانيا، صُمّم خصيصًا لهذه المناسبة بواسطة الفنان لورين باوكر، يتغير لونه بمجرد التفاعل مع هواء المدينة، حيث يتحول من ألوان العلم البريطاني التقليدية (الأحمر والأبيض والأزرق)، إلى اللونين (الرمادي والأسود)، بمجرد تعرضه إلى نسبةٍ معيّنةٍ من التلوث.
وقد علقت السيدة كوربيت وهي ترسم صورة العلم في دفتر ملاحظاتها، قائلةً:
“علم بريطانيا الأسود! إنه يرمز لما سيحدث لنا إذا لم نتصرف قريبًا”.