الاضطرابات النفسية هي من أقدم وأهم المشكلات التي واجهها الإنسان على مدار التاريخ، وعبر مرور هذه السنين تنقل الإنسان بين التفسيرات المختلفة وطرق العلاج المتعددة.
كانت بداية التفسيرات لهذه المشكلة أن الاضطراب النفسي هو شر ناتج من الصراع المستمر بين الخير والشر، وآمنت بعض العصور أن هذا الاضطراب من فعل كيان خارق للطبيعة والذي تمثل في الشيطان، وآراء أخرى كانت تعتقد أن الأمراض النفسية سببها بعض الآلهة في عصورهم وذلك نتيجة لإيمانهم بسيطرة الآلهة عليهم.
مرت العصور واحتفظ الأطباء بملاحظات وسجلات وبعض البرديات المحدودة التى تحتوى على وصف محدد لحالات الاضطراب النفسي التي عانى منها المرضى، وكان من المستحيل الوصول للتفسيرات التي وصل إليها عصرنا الحالي.
احتوت العديد من هذه الملاحظات على طرق للعلاج، وكانت طريقة العلاج تختلف من دولة لأخرى ومن عصر لآخر، فكانت بعض الدول تستخدم السوائل وإلقاء التعاويذ على المرضى، ولجأت بعض العصور لاستخدام الأعشاب والوخز بالإبر.
وكانت أشهر طرق العلاج هي الضرب وطقوس طرد الأرواح الشريرة التي عرفها البعض بالجن أو الشياطين. ومن هنا قد تعايشت المعتقدات الإسلامية مع هذه العادات المحلية بمرور الأزمنة.
الإيمان والصحة النفسية:
عبر مختلف الأزمنة قد أثارت علاقة المؤمن بالله اهتماماً كبيراً -بغض النظر عن الشعائر الدينية- بارتباطها الوثيق بالمرض النفسي. وقد أقر العديد من علماء النفس أن المؤمن أقل عرضة للأمراض النفسية والإيمان بالله هو من أهم عوامل الشفاء.
يقول وليم جيمس أستاذ الفلسفة بجامعة هارفارد سابقاً أن أعظم علاج للقلق ولا شك هو الإيمان. ونتيجة لذلك بعد دراسات متعددة نجد أن معدلات الانتحار تصل لأعداد مأهولة في الدول الغير مؤمنة على عكس أمتنا المؤمنة وذلك لتوفر الإيمان في نفوسنا.
نظرة الاسلام:
خُلق الإنسان مركب من عناصر مختلفة: الروح، الجسد، العقل، النفس.
لكل عنصر منهم غذاء ولكل منهم مرض ودواء. اهتم الإسلام بالنفس البشرية وأشار إلى شيء من أسرارها وخباياها، وقد أُنزل القرآن الكريم بوصف موجَز لطبائع النفوس البشرية ووسائل لعلاجها، وكشف لنا عن بعض أسرارها وأسرار الكون من حولنا لكي نتجه الاتجاه الصحيح في كل محنة. ومن عادتنا كمسلمين نربط حياتنا بالقرآن الكريم ولذلك المبرر الأول للاضطراب النفسي بالنسبة إلينا هو عدم القرب من الله ومن القرآن ما يدل على ذلك مثل قوله تعالى “ومَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا”، وقوله تعالى: “فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ”.
وقد ذكر القرآن الكريم أيضاً بعض الآيات التي توضح طريقة التعامل مع المرض النفسي والعقلي، وذكر الإسلام العديد من الأذكار والفروض التي تعزز العلاقة المباشرة مع الله وطرق التقرب منه، بداية من اعتماد اركان الاسلام في حياتنا، مروراً بتعلم اسماء الله الحسنى لأنها أول طرق معرفة الله وصفاته العظيمة، وصولاً إلى تأدية الصلاة والمواظبة عليها مع مراعاة طريقة الوضوء الصحيحة لأنها تعتبر أهم أسباب الراحة النفسية.
وذكر غيرها العديد من الشعائر الدينية التي تشكل مستويات جديدة في الصحة النفسية والراحة التى يسعى إليها المؤمن في حياته.
نفي العلاقة بين الدين والصحة النفسية:
وبالرغم من اجتماع الآراء على مر العصور بالعلاقة الوثيقة بين الدين والصحة النفسية ولكن لابد من وجود معارضين.
والقول الشائع بينهم أن المرض النفسي موجود في العقل، وليس له علاقة إطلاقاً بالإيمان بالله من عدمه، فالشخص المؤمن والملحد يمكن أن يصابوا بالمرض النفسي.
وللإجابة عن ذلك أشارت العديد من الأبحاث والدراسات ومنهم الباحث هارولد كوينج أستاذ الطب النفسي والعلوم السلوكية بجامعة ديوك الذي أكد في دراسته العلاقة بين الدين والصحة العقلية أن علاقة الدين بالصحة النفسية والعقلية هي علاقة معقدة تماماً ويصعب فهمها وأوضح مدى اندهاشه من محاولة نفي بعض الأشخاص الربط بين الدين والصحة النفسية أو العكس. ومع ذلك يظل الرأي السائد أن الإيمان يُقوي القدرة على تحمل الآلام، لا يشفي ولكن يساعد على ذلك، وبقدر الإيمان يتحمل الإنسان المرض من باب الرضا بالقضاء.
هل يحمي الدين من الأمراض النفسية؟
قبل الإجابة على هذا السؤال، من الجدير بالذكر أن الأمراض النفسية هي نتيجة تفاعل معقد لعدة أسباب بيولوجية وبيئية.
من الصعب تحديد سبب واحد محدد لحدوث هذه الأمراض، لكن هناك عددًا من الأسباب العلمية المثبتة التي تلعب دورًا في ظهور الاضطرابات العقلية والنفسية.
من بين هذه الأسباب:
- العوامل الجينية: تعتبر الوراثة عاملًا مهمًا في احتمالية الإصابة بالأمراض النفسية.
- فقد تنتقل بعض اضطرابات المزاج والقلق والفصام والتوحد عبر الأجيال نتيجة التأثيرات الوراثية.
- التغيرات الكيميائية في المخ: هناك توازن كيميائي في المخ يؤثر على المزاج والعاطفة.
- اضطرابات مثل الاكتئاب واضطراب الهلع قد يكون لها صلة بتغيرات في مستويات الناقلات العصبية مثل السيروتونين والدوبامين.
- التعرض للإجهاد والضغوطات: الضغوط النفسية المستمرة والإجهاد الناجم عن مواجهة تحديات الحياة يمكن أن يؤثر سلبًا على الصحة النفسية ويزيد من خطر الإصابة بالأمراض النفسية.
- التجارب الصادمة والتعرض للصدمات: قد يؤدي التعرض لتجارب صادمة أو حوادث مروعة إلى ظهور اضطرابات ما بعد الصدمة وغيرها من الاضطرابات النفسية.
- العوامل البيئية والاجتماعية: يمكن أن تلعب الظروف البيئية والاجتماعية دورًا في ظهور الأمراض النفسية. على سبيل المثال، يمكن أن تزيد الفقر والعزلة الاجتماعية من خطر الاكتئاب والقلق.
- التعرض للمخدرات والكحول: يمكن أن يسبب تعاطي المخدرات والكحول اضطرابات نفسية وتسبب في تفاقم الحالات القائمة.
من هنا، يمكننا القول إن الدين، سواء في وجوده أو عدمه، ليس عاملًا مسببًا للأمراض النفسية. فالأسباب السابقة التي تؤدي للاضطراب أو للاستعداد للاضطراب يمكن أن يختبرها شخص متدين أو غير متدين.
ولكن في ديننا الحنيف لكل داء دواء وفي القرآن الكريم ما ينصحنا بتجنب هذه الأسباب التي تؤدي إلى الأمراض النفسية. بالإضافة إلى ذلك، لا يختلف المرض النفسي عن المرض العضوي في الحاجة لتلقي علاج ودعم خلال رحلة مكافحة المرض أو التعايش معه والتحكم في شدته والحماية من المضاعفات. وبالتالي، يمكننا القول إن الدين يحمي من الإصابة بالأمراض النفسية بتجنبها وخلق مجتمع صحي يمكنه من غلب أي مرض.
ولكن من الضروري أيضاً تشخيص وعلاج الأمراض النفسية من قبل المتخصصين، سواء كانوا أطباء نفسيين أو أخصائيين نفسيين، عن طريق العلاج الدوائي أو العلاج المعرفي السلوكي أو العلاج الجدلي وغيرهم، وذلك باستخدام منهج علاجي علمي ويمكن قياس نتائج التحسن.
المراجع:
العلاقة بين الدين والصحة العقلية