كان لدينا ذات يوم شجرة كبيرة كما تصورناه أو كما صورت هى نفسها لنا، واطلقنا عليها حينئذ ” شجرة الزيزفون أو تيليا” لما كان لها من رائحة عطرية طيبة، ولما كنا نتصوره لها فى مخيلتنا من أنها القلب الكبير الكائن شكله فى الأوراق الكبيرة لشجرة الزيزفون التى هى على شكل قلب مائل وحواف مسننة أو رمحية كأوراق الزيتون ذات اللون الفضى. كنا نسعى جميعا الى الاهتمام والعناية بها دون أى كلل أو ملل و دون أى غرض أو مصلحة، وكانت هى تبادلنا نفس العناية والاهتمام ولكن كان كل هذا ودون أن ندرك أو ندرى أنه لغرض فى نفسها وترتيبا وذكاءا منها للوصول الى شئ ما. وكانت كلما زاد ارتفاعها وتزينت وتحلت وتجملت بالحلة الخضراء الساحرة، كلما زادت نضرة فرحتنا بها دون أن ندرى أيضا أن هذه الزينة ليست لنا ولكن لشئ ما ولهوى قابع فى أصولها.
بدأ نمو هذه الشجرة كأنه نموا طبيعا، وتمت الاشارة اليه بالبنان، وفى ذلك كانت سعادة المحبيبن والمريدين، عفوا أقصد المخدوعين ومن هم على شاكلتهم من الذين لا يدركون ولا يملكون من أمرهم شئ. وبلغ ارتفاع هذه الشجرة من الارتفاع مبلغا وأصبح حوالى ثلاثون مترا، وتغطت سوقها بلحاء ذو لون رمادي أملس، وأكتست فى مظهرها العام بثياب أخضر من أوراق قلبية الشكل، وازداد جمالها جمالا وتزينت بعناقيد من الأزهار البيضاء أو الصفراء الباهتة. ومع زيادة حب المخدوعين وبلاهة وعدم ادرك المقتربين والتصاق وخبث أصحاب المصالح واعجابهم بالنوارات الشقراء لهذه الشجرة، كان تكوينها فى قسمها العلوي من الساق مع الأعضاء مركب يشبه التاج، مع ميل فى الأغصان إلى أسفل، هذا مع تشقق اللحاء في السيقان وتلون الأوراق باللون الأخضر الداكن فى الأجزاء العلوية من الشجرة وباللون الرمادى الأخضر في الجهة السفلية مع وجود شعيرات بلون الصدأ في إبط عروق الأوراق.
ولكن ما طار طير وارتفع الا كما طار وقع، ولأن النهايات هى القدر المحتوم لكل بداية، ولأن طبيعة النهايات ترتبط ارتبطا كليا وجزئيا بجوهر المقدمات والبدايات التى كان يجب أن تكون ابتغاء وجه الله تعالى، كانت النهاية المأساوية لشجرتنا التى اعتقدنا أنها شجرة معمرة عندما خدعتنا بسيقانها الخشبية ذات القشرة الملساء وبأغصانها الكثيرة وباوراقها الكثيفة. اختفت الكلمات الطيبة التى أصبحت فقط من نصيب أهل الثقة، وبلغ هوى النفس مداه، وزادت رقعة بستان الشيطان، وتشابكت فروع وأغصان شجرتنا وطغت على ما حولها من الأشجار والنباتات، عندئد بدا الذبول على شجرتنا مع التساقط المستمر فى أوراقها واختفاء كامل لزهورها. جاء الحسبان من السماء وأصبح ما كنا نعتقده ما هو الا صعيدا زلقا وأصبح الماء غورا لدرجة أننا لم نستطع له طلبا، كل هذا على سند من القول أن جوهر المقدمات لم يكن كما أعتقدنا.
وبما أن كل اناء ينضح بما فيه، أصبحت شجرتنا لا خير يرتجى منها، وأصبح طعمها مر، ورائحتها غير زكية، وأصبحت شر كلها، وخبث كلها، وسوء كلها، وكان لابد من رؤية عظمة ما جاء فى قول الله تعالى “ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء * تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون * ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار ” (إبراهيم:24-26)، هذا لأن شجرتنا لم تكن طيبة وكانت خبيثة وكان لابد من تساقط أوراقها ومن ثم كان لابد من اجتثاثها من فوق الأرض. وبما أن البكاء لم ولن يكون الا على ما هو غال ونفيس، فلن يكون هناك بكاء الا من المتلمقين وأصحاب الهوى، ولا عزاء للغالفين والمتسلقين ، والعاقبة عندنا فيما نتفق عليه ويكون ابتغاء وجه الله تعالى.