ان كان سقراط هو المؤسس للفلسفة الغربية فان أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي هو المؤسس للفلسفة العربية. فكان لعناية الخليفة المأمون ومن بعده الخليفة المعتصم أهمية كبيرة فى احتكاك أبو الفلسفة العربية بفكر وفلسفة محتوى مثلث الفلاسفة الذى ضم بين أضلاعه رواد الفلسفة الغربية ( سقراط – أفلاطون- أرسطو). فبين جدران بيت الحكمة فى بغداد كانت مهمة الكندى التى كلفه بها المأمون والتى تجسدت فى الاشراف على هذا البيت الثقافى العظيم الذى أنشئ من أجل ترجمة النصوص العلمية والفلسفية اليونانية القديمة.
بستان فليسوف العرب
ان تجولت بمركبتك الثقافية داخل البستان العلمى والثقافى للكندى، فلابد أن تكون عالما مثقفا بالدرجة الكافية كى تستوعب كل ما قد تجده أمامك. فان اخبرتنى أنك متعلم فلن أملك الا أن أقول لك أنك سوف تجد أمامك كل شئ فى الشئ الذى تعلمته، أما ان أخبرتنى أنك مثقف فلن أملك أيضا الا أن أقول لك أنك سوف تجد بين عينيك شئ عن كل شئ. فسقراط العرب كان عبارة عن جامعة علمية عالمية، نعم جامعة بكل ما تحمله الكلمة من معان، فهو ممن أخذ عنه علوم الطب والهندسة والصيدلة والفلك والجغرافيا…ألخ. فتآليف الكندى تكاد تشمل مختلف العلوم العلمية والأدبية، فقد دون كتب في الفلسفة وعلم السياسة والأخلاق،وعلم الكريات والموسيقى، والفلك والجغرافيا ونظام الكون والتنجيم والنفسانيات والأبعاديات وعلم المعادن، علاوة على وجود العديد من المؤلفات فى الكيمياء فى العطور وأنواعها، وكذلك فى الطبيعة فى الأجرام الغائصة في الماء، و في الأجرام الهابطة، وفي عمل المرايا المحرقة. من أجل كل هذا قال عنه المؤرخ ابن النديم في الفهرست: “فاضل دهره وواحد عصره في معرفة العلوم القديمة بأسرها ٬ ويسمى فيلسوف العرب، ضمت كتبه مختلف العلوم كالمنطق والفلسفة والهندسة والحساب والفلك وغيرها ٬ فهو متصل بالفلاسفة الطبيعيين لشهرته في مجال العلوم”. وتعظيما لأفكاره ورجاحة عقله واتزان شأنه اعتبره باحث عصر النهضة الإيطالي جيرولامو كاردانو واحًدا من أعظم العقول الاثنى عشر في العصور الوسطى. فكان الكندى عالًما ذا مواهب جمة بلغت به سمت الذكاء الإنساني
محور فلسفة فليسوف العرب
قامت فلسفة الكندى على أن كل الأشياء تدور حول محور العقل، فالعقل فقط هو ركيزة كل الأشياء، لدرجة أن نظريته فى المعرفة كانت تتلخص فى أن الله خلق العقل أولًا ٬ ومن خلاله خلق الله جميع الأشياء الأخرى. دلالة هذا أن الكندى قد تأثر كثيرا بالاضلاع الثلاث لمثلث الفلاسفة ولكنه اقترب أكثر وأكثر من فلسفة أفلاطون فكانت للواقيعة الأفلاطونية عظيم الأثر فى منهجه الفلسفى لدرجة انه اعاد صياغة فلسفة أرسطو في إطار الفلسفة الأفلاطونية المحدثة.
اهداف فلسفة فليسوف العرب
فرضت طبيعة المهمة الملقاه على كاهل أبو الفلسفة العربية الاحتكاك بالفلسفة اليونانية القديمة والهلنستية، وكان لهذا العالم الجليل جهودا جباره فى تعريف العرب والمسلمين بالفلسفة الغربية. فأكب الكندي على الفلسفة والعلوم القديمة حتى حذقها حذقا. وحمل سقراط العرب على عاتقه في كل أعماله الفلسفية مهمة ليست بالبسيطة تمثلت فى إيجاد التوافق بين الفلسفة والعلوم الإسلامية الأخرى.
الكندى فى بوتقة الفلسفة
وعندما نذهب مع الكندى الى البوتقة الفلسفية، نجد أن البعض قد اعتبره لا يملك العبقرية الفلسفية لأنه لم يكن له مبدأ فلسفي خاص به، بل كان مصنًفا يعمم العلم وينشره من خلال شرح أمهات الكتب والتعليق عليها. هذا على الرغم من عظم علمه واتساع نطاق معارفه، وغزارة مادته، وتعدد تآليفه وتصانيفه، وسبقه سواه من العرب الى فلسفة المثلث الفلسفى لكل من سقراط وأفلاطون وأرسطو. ولكنه ان فرضنا جدلا أن الكندى لم يكن له مبدأ فلسفى خاص به، فان أحدا لن يستطيع انكار بصمته الذهبية فى إيجاد التوافق بين الفلسفة والعلوم الإسلامية الأخرى من خلال علو كعبه فى الترجمة، علوا مكنه من تفسير الكثير من كتب الفلسفة، فلخص المستصعب منها وبسط العويص وتلمس ما فى باطن هذه الكتب من مشاكل لدرجة أن شاذان قد ذكر في المذكرات عن أبي معشر، المشهور عند المصريين بكتاب في التنجيم ” إن حذاق التراجمة في الإسلام أربعة، بينهم يعقوب بن إسحق الكندى”. وفى كل هذا كان لابد أن نجد الآثار الفلسفيه للكندى، لأن الفليسوف ما هو الا شخص محب للحكمة ساعيا اليها وفى سبيل ذلك يخضع ولفترة طويلة من التدريب والدراسة كى يصل الى الحقيقة عن طريق التأمل والادراك المتعمق. وعلى الرغم من كل هذا، ان كل من انتقد الكندى كان نقده فلسفى يدور حول ما استنتجه من نتائج جاءت للتوافق بين الفلسفة والعلوم الإسلامية الأخرى، ولأن الاستنتاج فى حد ذاته فلسفه، ولأن الكندى أول السالكين لهذا الدرب الفلسفى، فانه وبحق أبو الفلسفة العربية، وفليسوف العرب بل وسقراط العرب.