ان لقاء السحاب الذى دمج بين مادية فيورباخ وجدلية هيجل، قد نجم عنه سقوط أمطار الفكر الفلسفى العميق على طول الشريط الحدودى بين المادية والجدلية، الأمر الذى أدى بدوره الى تشييد بستان الفلسفة الدياليكتيكية أو المادية الجدلية. حيث تعتمد الفلسفة الدياليكتيكية على ثلاث قوانين رئيسية، هي: أولها نفي النفي، وثانيها، وحدة صراع المتناقضات (التناقض والصراع بين المتناقضات فى وحدة واحدة) وثالثها، تحول الكم إلى الكيف الذى يشمل التراكم الكمي والتغير النوعي. ولكن ما مدى استقلالية هذه القوانين بالنسبة لبعضها البعض؟ أم أنها تدور فى دائرتها حول بعضها؟ أم أنها كالذرة لها نواة يحيط بها مستويات أو مدارات تدور فى فلكها؟. وهل يتوقف طوفان هذه القوانين عند جسر الفلسفة التقليدية؟، أم يجتاز هذا الجسر العتيق ويغمر كافة أراضى العلوم المختلفة ويحتل كل فروعها ويسيطر على معظم آليات تنظيمها. هذه الدياليكتيكية تشير الى الصراع الحتمى المختلف النتائج والآثار بين كل من عقلانية ومنطيقة الأشياء والأمواج المتلاطمة لواقعها المتغير بتغير درجة الدمج بين المادية والجدلية.
الدمج والامتزاج المتجانس بين المادية والجدلية يؤدى دائما الى نشأة وتكوين الدياليكتيكية الكاملة (النقية) القائمة على الترابط الذي يشكّل الصيرورة، التي هي حركة المجتمع وتقدمه الى الأمام. فى حين تنشأ الدياليكتيكية غير الكاملة (المشابة) من خلال الامتزاج غير المتجانس بين المادية والجدلية نظرا لنفور وعدم توافق رؤيتهما وفلسفتهما عند الاحتكاك والتطبيق على أرض الواقع. مفاد هذا أن عدم البقاء فى حظيرة المنطق الصورى القائم هو الأخر على فلسفة التناقض الأبدى الخارجى، يؤدى الى تحقيق الصيرورة القائمة على الترابط الشديد بين قوانين الدياليكتيكية الثلاث مع احتفاظ قانون وحدة صراع المتناقضات بحق الفيتو، نظر لأنه يعتبر محور وجوهر هذه القوانين. كما أن نقطة اتزان وحجر زاوية عملية الدمج بين المادية والجدلية تعتمد اعتمادا كليا على مدى ارتباط قانون التناقض مع كل من قوانين نفى النفى والتراكم والتغيير. حيث أن طبيعة التناقض فى المنطق الصورى تختلف اختلافا كليا عن هذه الطبيعة فى المنطق الدياليكتيكى، مفاد هذا أن طبيعة التناقض هى نقطة الفصل الحاسمة بين المنطقية الصورية والمنطقية الدياليكتيكى. هذه النقطة الحاسمة لم يتم الوصول اليها واكتشافها الا مع زيادة الوعى وقوة الادراك التى كان من صورها جهد واجتهاد هيجل وانجلز وماركس.
التناقض فى المنطق الصورى هو تناقض خارجى يعتمد على شكل البنية الخارجى مع اعتماد السكون والثبات وكأنه الرفض التام لحركة التقدم الى الأمام. أما التناقض فى المنطق الجدلى عبارة عن تنافض داخلى يعتمد البنية من الداخل مع توثيق الحركة والتقدم الى الأمام مع اعترافه بالمنطق الصورى على سند من القول أنه يعتبر الشكل الأول لعمل آليات الذهن للشكل الخارجى للبنية لأنه فى حركته دائما ما يتحرك نحو العمق. فى حين نجد الدياليكتيكية قد دمجت بين مفاهيم التناقض المنبثقة من المادية والجدلية، وعملت على الترابط بين هذا الدمج وقوانين نفى النفى والتراكم والتغيير.
النظرة المجردة للتناقض فى المنطق الصورى تشير الى التناقض الابدى الخارجى الذي يفصل بين الأشياء، ويجعل لواء الخصومة والعداء وعنترية الأنا أساس العلاقة بينها. ويتضح هذا فيما جاء على لسان أ. سلامة كيلة (الكاتب والمفكر الفلسطينى) فى منطق أرسطو الذى يبدأ من تبسيط يقول: هناك (أ) وهناك (ب)، حيث أن (أ) لا يمكن أن تكون (ب)، بل هناك (أ) أو (لا أ). التناقض هنا خارجي، حيث أن (أ) هي ثابت، وكذلك (ب)، وهما كذلك دون أي علاقة بينهما. لهذا ليس من وجود إلا لـ (أ) أو (لا أ). وهذا المنطق يرفض الحركة بل يقوم على عنصرى الشكل والسكون، وبالتالي يصبح المنطق الحاكم هو مبدأ: إما/أو (خير/شر).والقطع بمبدأ إما / أو، يعنى إما هذا أو ذاك، ومن ثم يقطع بين طرفي التناقض ولا يفضي إلى أى تركيب يتضمن طرفيه ويؤدى بدوره الى نفي طرف للطرف الآخر ليستقلّ بذاته، ويبقى في مكانه دون تقدم إلى الأمام. وبهذا يصبح التناقض شكلياً غير حاسم لأى نزاع لصالح أى طرف، أي خارج بنية أى ظاهرة، ولا يؤسس بدوره الى فهم الصيرورة.
التناقض فى المنطق الدياليكتيكي يعتمد على حسم التناقض وعلى قوة ترابطه مع ما تبقى من عناصر تكوينه من نفى النفى وتراكم الكيف والتغير النوعى، حيث يقوم الجدل المادي على فهم الواقع من خلال فهم آليات هذه العناصر معاً، وليس الفصل بينها، لأنها معاً تشكّل الصيرورة. فقد قام المنطق الدياليكتيكي (الجدل المادى المتجانس)بخطوة مهمة بدأت باعتبار أن التناقض هو تناقض داخلي، أي داخل البنية (أي بنية)، ومن ثم قام بتحديد (أ) و (ب) قبل الدخول في فهم الصيرورة. وأشار هذا المنطق الى أن التناقض بين (أ) و (ب)، يفضي إلى نفي (أ) إلى (ب) (أي الفريضة والنفي)، الأمر الذى يفضي بالضرورة إلى تضمّن (أ) لـ (ب)، وهو ما يمكن أن نطلق عليه نفي النفي وأيضا متابعة قوية لعنصر (أو مبدأ) التراكم الكمي والتغيير النوعى نظرا لتحقق التراكم والتغيير في طرفين. هذا يؤكد على أن المنطق الدياليكتيكي قد أسقط من منظوره أحد عناصر المنطق الصورى (منطق أرسطو المنعزل عن التطور) القائل بأن هناك (أ) أو (لا أ)، ليكون هو (أ) و (لا أ) في الوقت ذاته. مفاد هذا أن (أ) هي (أ) و (لا أ) في الوقت ذاته بعد أن تتضمن (ب) . وبهذا المنطق يصبح التناقض محفِّز قوى للتقدم إلى الأمام، اعتمادا على أن حسم التناقض يفرض تحقيق التراكم في طرف أكثر من الآخر، وبالتالي وصول الصراع إلى لحظة تجعل هذا الطرف قادراً على نفي الطرف الآخر. وهنا لا يكون هذا النفي هو نهاية المطاف، بل يكون خطوة تفرض وتضمن انتقال الطرف الأول إلى حالة نوعية جديدة. هذا الأخير يسمى نفي النفي، حيث تعود الحركة إلى الأصل متضمنة النفي، وهي بذلك تحقق التقدم المؤدى الى تحقق الصيرورة.
ومن الصور المثاليه في تطبيق المنطق الدياليكتيكي فى كافة العلوم والتى منها الكيمياء الفيزيائية، اندماج الديتيريوم والتريتيريوم الذى يفني الاثنين وينتهى بانتاج الهيليوم. حيث أن الديوتيريوم والتريتيوم نظيران للهيدروجين، العنصر الأكثر وفرة في الكون. علاوة على أن تفاعل الصوديوم الحارق مع الكلور السام ، يؤدى الى انتاج ملح الطعام الذى لا يمكن الاستغناء عنه فى هذه الحياة. وعلى الجانب الأخر، وفى تطبيق عملى آخر للمنطق الدياليكتيكي ، نجد في الانسان مثلا يوجد خلايا تموت وفى نفس الوقت أخرى تنمو، والعمليتان تسيران معا في وحده واحده شملت موت خلايا وانتاج خلايا فى حركة وتقدم الى الأمام لتتحقق الصيرورة.