يعود قدم الجنس البشري إلى حوالي 2.5 مليون سنة, ولكن ما يتحكم بضربات قلب الإنسان هو آلية أقدم بكثير من تاريخ الفصائل البشرية, وهي آلية جزيئية قد تعود بحسب قول الباحث (تيم جيغلا) من معهد (هاك) التدريسي, إلى ما يقارب 700 مليون إلى مليار سنة.
يقوم معهد (هاك) بدراسة تطور الجهاز العصبي و العضلي, باستخدام نموذج عضوي مثل حيوان شقائق النعمان البحرية النجمية, الذي مع بعده التطوري عن الإنسان إلا أنه ما زال يتشارك مع البشر بذات نظام الإشارات العصبية والعضلية, وقد أظهرت المقارنة ما بين الكائنات البشرية وبين الحيوانات المجوفة, والتي تفصل بينهما حقبة من التطور تقارب 700 مليون إلى مليار سنة, أن الوظائف الأساسية هي الشيء الوحيد الذي تمت المحافظة عليه, مثل آلية تصنيع الخلايا العصبية, أو في هذه الحالة آلية إرسال الإشارات العصبية والعضلية، وهذه الوظائف التي تمت المحافظة عليها هي ذاتها التي كان يمتلكها السلف المشترك الذي تطور عنه الانسان وشقائق البحر, وفي الحقيقة فإن هذه الآلية الأساسية يتشارك فيها جميع أسلاف الحيوانات الحديثة (باستثناء الاسفنج والمشطيات), ويعتبر تحديد هذه الوظائف الأساسية التي تتشارك بها جميع الكائنات الحديثة مساعد هام لمعرفة تاريخ التطور الحيواني.
كانت إشكالية هذا البحث أن خصائص قناة Ergعند البشر (وهي قناة مُنَشَّطَة بالتوتر وذات اتجاه واحد في خلايا عضلة القلب) تتشابه مع خصائص هذه القناة عند شقائق البحر من حيث ضبطها لعودة الاستقطاب اللازم لعودة التقلصات القوية في العضلات أو عودة الموجات الانكماشية لعضلة القلب بعد العمل لفترات طويلة، والمطلوب معرفته الآن إذا ما كانت هذه القناة ضرورية لحدوث تلك الموجات الإنكماشية في الحيوانات, و إذا ما كان ذلك صحيحاً فهل كانت بداية التطور من هذه النقطة؟ وهل استطاعت الكائنات الحية تطوير هذه الآلية ليعمل بها القلب؟
إن باقي القنوات الأيونية المستخدمة لتنظيم دقات القلب موجودة أيضاً في الشقائق البحرية, وبمقارنة وظيفة هذه القنوات عند الإنسان، مع وظيفة هذه القنوات عند الشقائق البحرية، قد نتوصل إلى استنتاج يقودنا إلى أن هذه القنوات هي أساس تطور نظام الموجات الإنكماشية في القلب.
ولمتابعة هذه الدراسة, قام (جيغلا) بالتعاون مع زملاء جدد من بينهم عالمة الأعصاب (ميليسا رولز)، بهدف مواصلة البحث في تطور بنية الخلايا العصبية، ولمعرفة كيف تطورت القنوات الأيونية و الإشارات العصبية, ومتى وأين تطورت بنية الخلايا العصبية نفسها, وكيف تطورت المحاور والتغصنات العصبية ) وهي امتدادات قصيرة متخصصة في استقبال الرسائل(والجدير بالذكر أن الشقائق البحرية تشكل نموذجا عضوياً ممتازاً لدراسة المبادئ الأساسية لكيفية تراكب الخلايا العصبية معاً, وذلك لعدم امتلاكها لجهاز عصبي مركزي, فهي تمتلك عوضاً عن ذلك شبكة عصبية منتشرة بداخلها تظهر على بعضها نقاط اشتباك عصبية ثنائية الاتجاه, تسمح لها بتنسيق حركتها والاستجابة لما يحيط بها.
التشريح العصبي لشقائق البحر أبسط بكثير من مثيله في كائنات أخرى, ولذلك يعتقد الباحثون بأنه سيكون من السهل ربط التغيرات في النشاط العصبي مع التغيرات في سلوك ذلك الكائن, وبالتالي معرفة الوظائف الأساسية التي تم الحفاظ عليها تطورياً وانتقلت إلى الكائنات التي خلفت هذا الحيوان على المستوى الخلوي و الجزيئي.
وفي دراسة نُشرت مؤخراً في دورية الاكاديمية الوطنية للعلوم, أعلن مختبر (جيغلا) أنه يوجد مورثة في شقائق البحر تنتمي إلى أسرة المورثات نفسها التي تسبب الموجات التقلصية البطيئة لقلب الإنسان, وبعد إعادة استنساخ المورثة للتأكد من هذه النتيجة, وجد الباحثون أن القناة الأيونية الحاوية للمورثة قد حافظت على وظيفتها من دون أي تغيرات نسبية منذ أن جاء تطور الإنسان من ذلك السلف الشترك، أي ما يعود إلى مليار سنة تقريباً.
وقد أظهرت النتائج أن بعض الآليات الجزيئية التي نمتلكها مثل الآلية التي تتحكم بحركة القلب تطورت في الحيوانات الأولية, في فترة تسبق بكثير وجود القلب أو حتى الأنسجة القلبية.
أخيراً، يشير الباحثون بأنه تقريباً جميع أنظمة الإشارة الرئيسية المستخدمة في أدمغتنا وفي عضلاتنا تطورت منذ مئات ملايين السنين عن سلفنا السابق المتمثل في الحيوانات ثنائية التناظر، حيث يُعتقد أن هذه الحيوانات كانت تمتلك مجموعة متنوعة جداً ومتكاملة جزيئياً من آليات الوظائف العصبية, حيث تم الحفاظ على هذه الآلية ونقلها إلى الحيوانات المتطورة وتطورت هذه الآلية لتلائم متطلبات الحيوانات الرئيسية, ويبدو أن الكثير من الإشارات العصبية المعقدة التي تحصل في جهازنا العصبي و العضلي تقوم على آلية سابقة للوجود البشري، وتكيّفت خصيصاً لتلبية احتياجاتنا الفيزيولوجية.