عندما نريد الاستماع لما يقوله شخص ما بشكل دقيق، فإننا نقوم أولاً بالتوقف عن الحديث، ومن ثم نقوم بالتوقف عن الحركة تماماً، وهذه الاستراتيجية تساعدنا على الإصغاء بشكل أفضل، وذلك من خلال منع الأصوات الناتجة عن حركاتنا من التأثير على الأصوات التي نرغب بالإصغاء لها بعناية.
هذا التلازم والتفاعل ما بين الحركة والسمع له آثاره في الدماغ أيضاً، فقد أشارات دراسات غير مباشرة منذ فترة طويلة، إلى أن القشرة الحركية في الدماغ (المسؤولة عن السيطرة على حركات الجسم)، تؤثر بطريقة أو بأخرى على القشرة السمعية (المسؤولة عن ترجمة الأصوات التي نسمعها) مما يؤثر على إداركنا وفهمنا للأصوات.
حالياً، عملت دراسة جديدة صادرة عن جامعة ديوك، تم نشرها في النسخة الالكترونية من مجلة نيتشر (Nature)، على الجمع ما بين الأساليب المتطورة في علم فيزيولوجيا الجسم الكهربائية (electrophysiology)،وعلم البصريات الوراثي (optogenetics)، والتحليل السلوكي (behavioral analysis)، بهدف الكشف عن الطريقة التي تقوم بها القشرة الحركية، بالتأثير على الصوت في القشرة السمعية.
ويشير كبير مؤلفي الدراسة الدكتور (ريتشارد موني)، أستاذ علم الأعصاب في جامعة ديوك الطب، وعضو في معهد ديوك لعلوم الدماغ، بأن الدراسة تجاوزت الدراسات القديمة التي تربط ما بين الحركة والسمع، وقامت بتطوير دراسة جديدة، للكشف عن العلاقة السببية ما بين وظائف الدماغ، حيث تبيّن نتائج هذه الدراسة الكيفية التي تتواصل بها القشرة الحركية مع القشرة السمعية في الدماغ، مما يؤثر على على السمع أثناء الكلام أو أثناء الأداء الموسيقي، وذلك كون التواصل ما بين القشرتين يؤدي إلى تشويش ذات الدوائر الكهربائية الدماغية، مما قد يؤدي إلى حدوث هلوسات سمعية لدى الأشخاص الذين يعانون من مرض انفصام الشخصية.
في عام 2013، قام الباحثون بقيادة (موني) بإجراء بحث حول التواصل ما بين القشرة الحركية والقشرة السمعية، في شرائح دماغ الفئران وفي الفئران التي تم تخديرها، أما الدراسة الجديدة قامت ببحث هذه الصلات لدى الفئران الواعية المتحركة. ويشير الدكتور (ديفيد شنايدر)،أحد الباحثين في مختبر (موني)، بأن هذه الدراسة تعتبر خطوة مهمة علمياً، كونها قامت بإجراء التقصيات على أنظمة الحيوان الواعي وهو يتحرك ويتصرف بكامل حريته.
تقوم الدراسة على اختبار نظرية (موني) التي تشتبه بأن القشرة الحركية تتعلم كيف تمنع استجابة القشرة السمعية للأصوات الناتجة عن حركة الشخص المستمع، بينما تقوم القشرة الحركية بذات الوقت، بزيادة حساسية القشرة السمعية تجاه الأصوات الأخرى الغير متوقعة، ولمعرفة صحة هذه الفرضية، كان على العلماء البدء بصناعة حالات واقعية، بحيث يقوم الحيوان بتجاهل الأصوات التي تصدر عن حركاته، بهدف الإصغاء إلى الأصوات الأخرى التي تحدث حوله.
قام الفريق بتسجيل النشاط الكهربائي للخلايا العصبية الفردية في القشرة السمعية للدماغ لدى الفئران ، وذلك استجابة للحركة التي تقوم بها، وتم بعدها تشغيل موسيقى للفئران، فتبين أن الخلايا العصبية في القشرة السمعية لدى الفئران المتحركة، أظهرت انخفاضاً في النشاط الكهربائي، مقارنة بالفئران التي كانت تستمع للنغمات وهي بحالة الراحة.
لمعرفة فيما إذا كانت الحركة تؤثر بشكل مباشر على القشرة السمعية، أجرى الباحثون سلسلة من التجارب على الحيوانات الواعية باستخدام علم الوراثة البصري، وهو أسلوب يستخدم الضوء للسيطرة على نشاط عدد محدد من الخلايا العصبية التي تم تعديلها وراثياً لاستقبال الضوء، واعتمد الباحثون على مبدأ لعبة الهمس الصوتي، التي تقوم على قيام مجموعة من الأشخاص بنقل رسالة عن طريق الهمس من شخص إلى آخر، ويقوم آخر شخص بإلقاء الرسالة بصوتٍ عالٍ، حيث تم تطبيق مبدأ هذه اللعبة على التجربة الماثلة،عن طريق تسجيل مرور الصوت الذي يدخل إلى الأذن ضمن ستة ناقلات أو أكثر في الدماغ قبل وصول الصوت إلى القشرة السمعية، وتم استخدام علم الوراثة البصري لتنشيط العقدة الناقلة قبل الأخيرة التي تقوم بإيصال الصوت إلى القشرة السمعية.
بالنتيجة تبين أن الحركة تحفز الخلايا العصبية المُثَبِطة، التي تقوم بدورها بقمع استجابة القشرة السمعية للنغمات، حيث وجد الباحثون بأن نصف عمليات قمع الصوت عند الحركة، تنشأ داخل القشرة السمعية نفسها، وهذا يعني أن التحوير الصوتي يجري داخل القشرة السمعية، وليس فقط ضمن ناقلات النظام السمعي.
وهنا أصبح العلماء أمام سؤال أكثر إلحاحاً وهو لماذا تم تحفيز الخلايا العصبية المُثَبِطة أثناء الحركة ؟
من المعلوم سابقاً بأن الانعكاسات العصبية القادمة من القشرة الحركية الثانوية التي تسمى بـ(M2) تقوم بتعديل مهام القشرة السمعية، ولعزل مساهمة القشرة الحركية الثانوية (M2) في مهام القشرة السمعية، قام الباحثون مرة أخرى باستخدام علم البصريات الوراثي، وهذه المرة لإيقاف أو لتشغيل مدخلات (M2) إلى الخلايا العصبية المُثَبِطة، وبالنتيجة تبين أن تشغيل مدخلات (M2) لدى الفئران التي لا تتحرك، أدى إلى إعادة تمثيل إحساس الحركة في القشرة السمعية، حيث تم تحفيز الخلايا العصبية المُثَبِطة التي قامت بدورها بقمع استجابة القشرة السمعية للنغمات، فكانت القشرة السمعية في هذه الحالة تتصرف وكأن الفأر في حالة الحركة على الرغم من أنه في حالة السكون، من ناحية أخرى، عندما تم إيقاف مدخلات (M2) أدى رجوع القشرة السمعية إلى حالتها الطبيعية، حتى عند الحيوانات التي كانت في حالة الحركة.