عند البحث عن المعنى الحقيقى لمعنى كلمة ” هلفته ” لن تجد لها معنى واضح، ولكنك عندما تبحث عن معناها بين عامة الناس قد تجد لها معنى قد تم استنباطه من ظروف واقعة معينة تشير غالبا الى أن هلفتة الكلمات ان دلت فانما تدل على أن هذه الكلمات غير متزنة بل وغير مترابطة وفقدت تناسقها وأصبحت فى غير محلها مع خروجها خروجا سافرا عن سياق الأدب وحدود اللياقة. فالهلفتة فى القول أو الفعل غالبا ما تكون اشارة الى عدم السداد وعدم التوفيق فى كليهما أو بمعنى آخر أنها تشير الى تخاريف الأقول أو الأفعال أو كليهما.. فهلفتة الكلمات لن تخرج الا من شخص قد فقد توازنه فى كلماته، كونه يتمتع بقدر عال من الجهل الأسود. ولا تتوقف هذه الهلفتة على فئة دون غيرها، فهى منتشرة بين كل الطبقات وعلى كل المستويات وبين كل العلوم، النظرى منها قبل العلمى. ومن ثقافة الهلفتة ننطلق لنلقى الضوء على مستحلبها، هذا المستحلب الذى هو فى الأصل خليط من مادة مهلفتة (زوان الهلفتة) ومادة غير مهلفتة (حنطة العلم) وكأننا أمام مواد غروانية ممتزجة بكل ألوان الجهل الجهول. حيث أن مدى بعثرة المادتيتن فى بعضهما يؤدى الى نوعين من المستحلبات الهلفتية. ففى النوع الأول من مستحلبات الهلفتة تكون مادة الهلفتة أو الجهل أكثر من مادة العلم والحقيقة المشار اليها بالكلمات المتزنة، وهذا النوع هو الأكثر شيوعا فى الزمن الحالى حيث ترابط وتلاحم واتفاق أهل الباطل مع قلة عددهم على أهل الحق مع كثرة عددهم واختبائهم وراء جدران خوفهم غير المبرر. أما النوع الثانى من مستحلبات الهلفتة نجده يحتوى أكثر ما يحتوى على مادة العلم والاتزان، وهذا النوع قد انقرض ومضى زمانه. والنوع الأخير، هو النوع النادر الوجود نظرا لنقائه وخلوه تماما من أى هلفتة تذكر.
وهنا تحضرنى كلمات ابن قتيبة حينما قال عن حال زمانه في كتابه “أدب الكاتب” : “.. فإني رأيتُ أكثر أهل زماننا هذا عن سبيل الأدب ناكبين (عادلين عنه) ، ومن اسمه مُتطيّرين (متشائمين) ، ولأهله كارهين (هاجرين): أما الناشئ منهم فراغب عن التعليم ، والشّادي (الذي أخذ من العلم طرفاً وتعلّمه) تارك للازدياد ، والمتأدّب في عُنفوان الشباب ناسْ أو مُتناسْ ، ليدخل في جملة المجدودين (المحظوظين) ، ويخرج عن جملة المحدودين (المحرومين) ، فالعلماء مغمورون ، وبكثرة الجهل مقموعون ، حين خوى نجم الخير ، وكسدت سوق البًرّ وبارت بضائع أهله ، وصار العلم عاراً على صاحبه ، والفضل نقصاً ، …”.
ومن مظاهر استفحال النوع الأول من مستحلب الهلفتة، اشتداد اختلاط الحابل بالنابل والمزج المتجانس بين التين والعجين، بل وأخذ العالم بجريرة الجاهل والتساوى فيما بينهما بل وفى كثير من الأحيان ما نلاحظ تقدم وتطاول الجهل على العلم. وعند تفاقم وتعاظم هذا الاستفحال نجد أن الجهل يبز العلم بزا مع ملئ المشهد بمَنْ لا ثقافة له ، ولا علم له، وبمن كانت غايته مبررة بوسيلته. بحيث لا تخرج ظاهرة مستحلب الهلفتة عن قسمتين لا ثالث لهما ، القبيلة والحقّ الجغرافي. القبيلة القائمة على عنترية الارث المحمول على الأكتاف دون أى سعى أو اجتهاد أو محافظة على هذا الارث، والحق الجغرافى القائم على خريطة طبيعة العمل. ومع انفجار هذه الظاهرة، نفقد جميعا كل ما غرسه وشيده الأجداد من علم وثقافة وأعراف وتقاليد كنا نتميز بها بين الأمم.
وعلى الرغم من كل هذا فالأمل مازال موجود والطموح ما زال منعقد من خلال العمل على الفصل الكامل لمكونات هذا المستحلب مع التخلص الكامل من الزوان بعيدا عن حنطة الحياة وعدم الاهتمام بأى هلفتة قد تطرق فجأة وبكل وقاحة لأى باب من أبواب العلم والأخلاق. فالاهتمام بحنطة العلم هو الطريق الوحيد الى كل صعود وتقدم ورقى مع التخلص الكامل من زوان الهلفتة. حيث أن حنطة العلم هى غذاء الشعوب، ويجب أن يكون هذا الغذاء صحى وسليم وغير ملوث لأن الحنطة ستكون دائمًا هي الحنطة، وسيكون الزوان دائمًا هو الزوان.