مع التطور المتسارع لعلم فوق الجينات ( الإيبي جينوم ) Epigenetics ، أصبح من السهل التعرف على أسباب حيرت العلماء فيما يتعلق ببعض الأمراض و كيفية حدوثها. منذ سنوات عديدة ركز علماء الوراثة على الجينات الوراثية المُطفرة في تفسير العديد من الأمراض ولم تكن دليلاً كافيا في تفسير حدوثها أو علاجها خصوصاً إن بعضها قد يحدث المرض والآخر قد يبقى ساكناً بدون أثر يذكر.
علم فوق الجينات بميكانيكياته المختلفة في تغيير صفات الجينات ( الموروثات ) بدون التغيير في قوامها أو تسلسلها الوراثي قد غدا من أضخم الأبحاث في الوقت الحاضر وخصوصاً فيما يتعلق بالتطور التشخيصي والعلاجي، فالجينات الوراثية تعبأ البندقية والإيبي جينوم هو من يسحب الزناد.
هذا العلم أخذ بالإهتمام في التغيرات التي تطرأ على جسم الإنسان في كل مراحل الحياة ، فمنذ بداية تكونه من بويضة وحيوان منوي ، وركز على أهمية ما يحيط بالجنين من بيئة وتغذية وعواطف ودورها في تكوين شخصيته وبنيته الجسدية والتنبأ بصحته العامة. وفي هذا المقال سيركز علي على دور الرضاعة الطبيعية في العناية الحثيثة في جينات الطفل وحمايته من العديد من الأمراض مستقبلاً.
وكما نعلم فإن الرضاعة الطبيعية هي من أجمل الهدايا التي تهديها الأم لطفلها منذ اللحظات الأولى لملامسة الجسد للجسد ، فكل هرمون يفرز في الجسدين نتيجة هذه المشاعر إعلم إن هناك أمور عظيمة تحدث تفاعلاً إيجابياً للصحة، فالموضوع لا يقف على تدفق السائل الغني بالمواد الغذائية الإستثنائية من الثدي إلي فم الرضيع ، فهذه القطرات والتي ستتحول إلى وجبات كاملة على مدى عام أو عامين قد تكون السلاح الذي سيحارب فيه هذه الطفل العديد من الأمراض.
وأشار العلماء في مئات الدراسات على أثر الرضاعة الطبيعية على جينات الطفل وصحته ، حيث أثبتت علمياً أهمية التغدية التي تعطيها الأم للطفل بالإضافة إلى دور التغذية السليمة للأباء وكذلك الأجداد في صحة جيل قادم.
وقد أثبتت العديد من الدراسات دور الرضاعة في تقوية الجهاز المناعي على المدى الطويل بالإضافة إلى التقليل من فرص الإصابة بقائمة من الأمراض من بينها : الأزمة ، الأكزيما ، أمراض الأمعاء ، البدانة ، السكري وبعض الأمراض العصبية ، لكن لماذا ؟ لإن الإيبي جينوم وعملية التأثير على البنية الوراثية من خلال التغذية الأولية تدخل في تفاعل يدعى ميثيل الدنا DNA methylation وهي ببساطة تفاعل إستقلابي لذرة كربون تعتمد على تبرع عناصر غذائية مهمة مثل المثينونين والكولين وحمض الفوليك وفيتامين B12 بمجموعة الميثيل .
ولا بد من التركيز على عدد من الأمراض الصعبة والتي يساعد حليب الأم في حماية صحة الطفل إيبوجينومياً :
أمراض الأمعاء الإلتهابية
مرض الالتهاب المعوي القولوني الناخر (ان اي سي ) ، هو موت جزء من الأمعاء عند حديثي الولادة وخصوصاً المواليد في عمر أقل من ٣٧ أسبوع حمل وأعراضه سوء التغذية والإنتفاخ وقلة الحركة ودم في البراز وإقياء العصارة الصفراوية ، لذلك عندما يرضع المولود حليب الأم الطبيعي فهو يقلل من فرص حدوث هذا المرض.
لكن ما هو الدور الأيبي جينومي في تقليل فرص حدوث هذا المرض ؟
الرضاعة الطبيعية تعمل على برمجة إفراز الجسم المضاد sIgA الذي له دور مناعي فعال في حماية الأغشية المخاطية من الجراثيم الضارة وذلك من خلال حماية صحة البكتيريا الطبيعية الموجودة في الأمعاء ، وهذا مالا يوفره الحليب الصناعي .
البدانة و أمراض أخرى
قديمًا كان ما يعرف عن أهمية البكتيريا المعوية هو دورها في الهضم إمتصاص العناصر الغذائية ولكن مع ثورة الإيبي جينوم وخصوصا في آخر ثلاث سنوات كشفت الدراسات أهمية هذه البكتيريا الطبيعية في تفاعلات التعبير الجيني والإيبي جينومي .
وبما إن البدانة هو مرض مركب الأسباب كالأسباب جينية ، بيئية وعادات صحية ومنها تغذية البداية للإنسان ويقصد بها الرضاعة الطبيعية.
تغذية الحليب الصناعي تؤدي إلى خلل في طبيعة البكتيريا المعوية الطبيعية بما يعرف ب dysbiosis وهذا ما يتبعه إختلالات في التفاعلات الإيبي جينومية وهي من الأسباب لتعرض الطفل لاحقاً للبدانة.
من التفاعلات الإيبوجينومية هو ما يطرأ على ببتيد اللبتين وهو من الببتيدات العصبية التي تدخل في عملية هضم الغذاء وإستقلابه ، والحليب الطبيعي يزيد من إفراز هذا الببتيد من خلال إلغاء إضافة مجموعة الميثيل والتي تؤدي كما ذكرنا إلى تثبيط الجينات تقلل من إفراز هذا الببتيد وبالتالي يكون للرضاعة الطبيعية دور في الحماية من البدانة مستقبلاً.
دراسات إيبجينومية أخرى أثبتت دور حليب الأم في حماية الطفل من أمراض مرتبطة بالجهاز المناعي وذلك من خلال التغذية الصحية للبكتيريا الطبيعية المعوية بسبب غني الحليب بالسكريات مما يؤدي إلي زيادة قدرتها على مساندة الجهاز المناعي وحماية الجسم من الجراثيم الخطيرة بالإضافة إنها تزيد من أفراز السايتوكينز المهم في العمليات المناعية.
السرطان
الرضاعة الطبيعية لا تحافظ فقط على صحة الطفل بل أيضا هي حماية للأم من سرطان الثدي ، وهذا الموضوع ليس مطلقاً نظرا لإن الأسباب متعددة ولكن هناك دراسات أشارت إلى إن الأمهات الحاملات للجين المطفر BRC1 المسبب لسرطان الثدي بالرضاعة الطبيعية يقلل بشكل ملحوظ فرص الإصابة بسرطان الثدي لاحقاً وكذلك الدور الإيبي جينومي الكبير للرضاعة الطبيعية يثبط عمل جين DHA له دوره في تكثيف عمل مستقبلات سرطانية ، ومازالت الدراسات في هذا المجال مكثفة نظراً لحداثتها من أجل كشف أسرار الفوائد التي تعطيها الرضاعة الطبيعية للأم والطفل وأجيال أخرى.
أخيرا وقد لاحظنا إن الرضاعة ليست محدودة الفوائد بالتغذية الأفضل للطفل ونمو سليم لعظام وأسنان فحسب بل هي مرتبطة بصحة الأم والطفل وأجيال قادمة ، ولا ننسى إنها أداة رخيصة الثمن من أجل رفع مستوى الوعي والصحة العامة.