عند فحص وتمحيص بوتقة الواقع والحياة، تستطيع تقييم مدى ارتباط معدل الذكاء بالعديد من النتائج المهمة في الحياة، حيث يكون وغالبا ما يكون معدل الذكاء أكثر تأثيرا فى النجاح الأكاديمي والأداء الوظيفي، ولكنه وبكل أسف ما يكون أقل فائدة في التنبؤ باتخاذ القرارات “الحكيمة” والتفكير النقدي. قد يبدو هذا الطرح غريبا ومثيرا للكثيرين ولكنه لن يكون هكذا بالنسبة لعلماء الفلسفة والمثقفين المحافظين دائما على ما تبقى من 86400 وحدة حياة. وللمحافظة على الغالبية العظمى من 86400 وحدة حياة، لابد لنا من المحافظة على التفكير في المسار الصحيح مع اماطة أى أذى للفكر من هذا المسار. ولن تتحقق هذه المحافظة الا بالابتعاد عن مغالطة التكلفة الغارقة وعن اللاتعقل وعن الاستدلال المنحاز.
ولكن وقبل كل هذا وذاك، ما هى 86400 وحدة حياة؟ انها وحدة الزمن الذى ينقضى ولا يعود، انها عدد الثوانى اليومية التى نهدرها فى اليم ونستهلكها استهلاك النار للهشيم دون أن نعى أو حتى ندرك ما تردده أفواهنا وما تسمعه آذاننا من قول للإمام علي رضى الله عنه ” الوقت كالسيف ان لم تقطعه قطعك”. فى اليوم الواحد، تمر علينا 86400 ثانية دون أن نستعملها استعمالا حسنا وكأنها لا شئ، ثم نعود وبعد فوات الأوان نبكى بكاءا شديدا على ما فات من ثوان ودقائق وساعات وأيام وسنين دون أن نحقق أى شئ وكأننا فى نقش مستمر لأعمال غير مجدية على سطح ماء عابر. حتى وان تعقلنا وتوقفنا عما نحن فيه من استهتار وتضييع للوقت، فسوف نصطدم بعنترية الجهل وبالسير قدوما فى دروب مغالطة التكلفة الغارقة واللاتعقل والاستدلال المنحاز. هذه الدروب التى تعتبر دروب من الانزلاق فى الهاوية التى تقوم على أنه ليس فى الامكان أفضل مما كان، وأنه قد فات الوقت وأنه لا جدوى فى أى محاولة للاستفادة فى ما تبقى من زمن، وأن القادم ليس أكثر من ما سبق. ومع الاعتداد بما جاء به عالِم النفس المتوج بجائزة نوبل دانيال كانمان وزميله عاموس تفيرسكي في السبعينيات، نجد أن هذه الدروب تقوم على ” أن العقل البشري دائما ما يميل الى العديد من التحيزات”.
حيث تقوم نظرية ودرب ” مغالطة التكلفة الغارقة “ على الكثير من المغالطات المنطقية المنبثقة عن التفكير البديهي السريع المستند الى أن المتبقى من الزمن ليس أكثر من الذى مضى منه، فى حين أن التفكير التحليلي البطيء المؤدى الى أن تعظيم الاستفادة من ما تبقى من زمن غالبا ما يكون فيه النجاة والهروب من مغالطة التكلفة الغارفة. حيث دائما ما يفتقر الغارقين فى مغالطة التكلفة الغارقة إلى المهارات اللازمة لتنظيم عواطفهم والسماح لأنفسهم بمراقبة مشاعرهم وتفسيرها ولا يستطيعون التغلب على فقدانهم للكثير من أوقاتهم وأعمارهم واستثمارتهم.
فى حين تقوم نظرية ودرب ” اللا تعقل “ على الاختلاف الكبير بين الذكاء والعقلانية. حيث أظهر إيغور غروسمان، أخصائي علم النفس في جامعة واترلو في كندا، والذي كان رائدا في دراسة الحكمة القائمة على الأدلة ، أنه يمكن لنتائج أكثر الأشخاص حكمة أن تنخفض في ظل ظروف معينة. وهنا سوف يعتمد ذكاء الشخص على نتيجة الحساب الزمنى المنصرم والتى تكون أكبر فى قيمتها من الزمن المتبقى من حياته، الأمر الذى يؤثر سلبا على كل آماله وطموحاته التى قد تندثر وتسقط فى مستنقع اليأس واللامبالاة.
وأخيرا نجد نظرية ودرب ” الاستدلال المنحاز” القائمة على تطبيق ذكاءنا بطريقة أحادية الجانب، لبناء الحجج التي تبرر وتسوّغ آراءنا البديهية وتهدم حجج الآخرين فى أن استمرارية العمل المقترن بالأمل ستظل باقية حتى أخر ثانية فى الحياة. والسبيل الوحيد لعدم الوقوع والانهيار فى محيط الاستدلال المنحاز هو البعد عن الدوغمائية المكتسبة؛ بمعنى أنك اكتسبت الحق في أن تظل منغلقا ومتعصّبا بشأن موضوع ما، بينما ترفض الحجج التي لا تتفق مع آرائك.
ولكى يكون الأمر أكثر بساطة، لك أن تتصور أن لديك من المال 86400 وحدة مالية (جنيه، ريال، درهم، دولار أو أى عملة)، وأن هناك لص قد سرق منك 200 وحدة. فهل ستبذل قصارى جهدك ووقتك وتخاطر بما تبقى معك من أجل الحصول على هذه الوحدات المالية؟ اعتمادا على مغالطة التكلفة الغارقة و اللا تعقل والاستدلال المنحاز. مغالطة التكلفة الغارقة التى تتطلب منك الكثير من الأليات مع عدم امكانية الحفاظ على بل والمخاطرة بما تبقى من وحدات (86200). واللا تعقل الذى يقوم على أن ذكاؤك يتطلب منك أن تسترجع ما سرق منك لما فى ذلك من أهمية أشياء مادية ومعنوية كثيرة تكمن فى معتقداتك. فى حين تتطلب العقلانية منك أن تنأى بنفسك وبما تبقى معك من مال ولا تخوض أى مخاطر من خلال السعى وراء اللص. وعلى الجانب الأخر نجد الاستدلال المنحاز القائم فلسفة الانحياز لأعراف معينة تلقى بشباكها على واقعة السرقة من خلال الاصرار على أنه كيف لنا أن نترك اللص؟، الأمر والمعتقد الذى لا طائل منه لما فيه من اهدار للوقت والجهد و المخاطرة بفقدان ما تبقى من مال.
مفاد هذا أنه يجب أن نحافظ على ما تبقى فى يومنا من 86400 ثانية ونعظم الاستفادة منها ولا نكترث بما فقد من 200 ثانيه قد تفقدنا 86200 ثانية المتبقة. ومن ثم ومن أجل الاستمتاع وممارسة مهام حياتك يجب ألا تنشغل كثير بما تصطدم به من مهاترات كالمشادات الكلامية والاحتكاكات اليومية التى قد تأخذ منك القليل من الوقت وتؤثر بالسلب على ما تبقى من يومك أو أيامك أو حياتك. فالتغافل والتجاهل خير وسيلة للحفاظ على ما تبقى من 86400 وحدة حياة، ولا خاب من تغافل وتجاهل، لما فى التغافل والتجاهل من اطفاء حقيقى لكثير من الشر.