من المعروف أن المادة الرمادية الموجودة في الدماغ تكتسب لونها الرمادي بسبب تجمع كثيف لأجسام الخلايا العصبية و الشعيرات الدموية, وبالمقابل تتكون المادة البيضاء بالكامل تقريباً من مادة الميلانين الشحمية – مادة دهنية تحيط بالألياف العصبية-مع الاشارة لوجود مساحة صغيرة في المادة الرمادية تحوي عدداً محدوداً من المحاوير المغمدة جزئياً بمادة الميلانين.
قررت مجموعة من الباحثين المعروفين, الذين ينتمون بمعظمهم إلى جامعة هارفارد ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا, البحث عن أنماط المحاوير العصبية المحتملة الوجود في المادة الرمادية القشرية, فأشارت النتائج التي توصلوا اليها إلى أن تغير التوازن الديناميكي المسجل لكل محور خلية, و الذي يتباين بين محاوير عديمة الميلانين ومحاوير ذات تكوّن كامل للميلانين , يجعلها تؤثر ايجابا على سرعة كمون العمل من جهة , وعلى التبادل السريع بين مختلف أنواع الخلايا من جهة أخرى.
وبالنظر على امتداد المحور نجد أن كل قطعة من الميلانين تكون مفصولة عن مجاوراتها بعقدة, وأن سماكة غمد الميلانين تختلف بشكل كبير من عقدة إلى أخرى, و هذا ما يحدد سرعة تشكل الموجة الكهربائية في تلك القطعة، يشير الباحثون إلى أن فترة استعصاء هذه العقد (فترة عدم الإستجابة للمنبه) هي الفترة الأكثر أهمية, وأن البعد عن العقدة الأولى له أهمية خاصة إذ تكون الموجة الكهربائية في هذه المسافة بشكل متدرج و منحني,كما تشير أبحاث (دوغ فيلدز) بأن شكل الموجات الكهربائية (الغير مطابق للأشكال النموذجية عادة) له تأثيرات وظيفية هامة منها تحديد كميات النواقل العصبية المتحررة وتحديد فترة الاستعصاء ومدى تواتر الموجات الكهربائية.
أصبح من المعروف بأن الأجزاء الأولى من المحاوير العصبية الموجودة في قشرة الدماغ الرمادية و التي تكون عارية من الميلانين غير مقاومة للخلايا الأخرى, إذ تصلها تحريضات مشبكية منتظمة من محاوير أخرى عبر النواقل العصبية المتحررة , و قد وجد الباحثون في تجارب على القشرة المخية لفأر أن هناك ترافق مطّرد ما بين طول القطعة العارية من الميلانين من المحور و ما بين عدد الخلايا الهرمية في القشرة المخية . تمتد هذه الأجزاء العارية من المحاوير في الطبقة القشرية الثانية و الثالثة حتى 55 مكرون.
هذه التقنية التي جعلت اعادة بناء أقسام متتالية من الدماغ أمراً ممكناً , لربما هي التكنولوجيا الأكثر تطوراً في علم الأعصاب، وهي التقنية ذاتها المستخدمة في دراسات (برينبو 2) الأخيرة, و التي خرجت بأكثر النتائج شهرة في هذا المجال.
إن تشكل الميلانين ليس عملية متناظرة و إنما هو عبارة عن عملية التفاف في اتجاه واحد, و قد كنا قد طرحنا سابقاً بالتفصيل كيف تتم هذه العملية في كامل الدماغ و الأعصاب نزولاً إلى المحاوير والخلايا الدبقية القليلة التغصنات المجاورة .
و هنا يمكننا أن نتسائل, هل يكون الميلانين في مراحل تشكله الأولى مشابهاً لاصطفاف جزيئات الدهون على الزجاج؟ و هل يكون إتجاه تكونه بشكل محدد منذ البداية، أم أن عواملاً مختلفة مثل درجة الحرارة أو الحقل المغناطيسي يمكنها أن تؤثر على ذلك ؟ وهل يمكن للمحاوير أن تتحفز في وقت و اتجاه واحد لتحرّض على تشكل الميلانين؟ وكيف يتم تشكيل الميلانين في الجسم الثفني الذي يربط بين نصفي الدماغ ؟ تتيح لنا التكنولوجيا التي بين أيدينا إمكانية الإجابة على جميع هذه التساؤلات.
إن مبدأ الحفر باستخدام المسمار والمعروف عند كل الميكانيكيين يمكن أن يفيدنا هنا أيضاً، فقد عمل العلماء على هذا المبدأ بشكل هائل, وهذا ما كانت قد أشارت إليه الاكتشافات السابقة في البنى الحلزونية الموجودة في صفائح الشبكة الهيولية الباطنية، والمرتبطة مع بعضها البعض عبر أغشية فريدة من نوعها.
قد تكون الخلايا العصبية نفسها غير متناظرة مع بعضها البعض أو على الأقل غير متناظرة المحاور أو التغصنات الهيولية ذات الأشكال المتباينة. وان كان من الممكن الآن أن نعطي تصوراً لعضيات الخلية ونظام اصطفاف المريكزات و الأنيببات على البروتينات سيمكننا بالتأكيد التعرف على بنية الدماغ على نطاق أوسع.