هل سبق أن وضعت إصبعك خلف رأسك، بمحاذاة الجزء العلوي من أذنيك؟ تحت الجلد والعظم، هناك نقطة صغيرة تسمى “الموضع الأزرق” (Locus Coeruleus)، لا يتعدى قطرها بضعة مليمترات، لكنها تتحكم بدرجة مذهلة في حالتك الذهنية. هذه البقعة الزرقاء – نسبة إلى لونها الناتج عن تراكم صبغة معينة – هي مركز تصنيع وإطلاق مادة النورأدرينالين، الناقل العصبي المسؤول عن التركيز والانتباه والاستجابة للتوتر.
يُشبّه العلماء الموضع الأزرق بـ”علبة التروس” في السيارة، إذ يحدد الغيار العقلي الذي يعمل به دماغك في لحظة معينة: هل أنت في حالة تركيز؟ أم شرود؟ هل أنت على حافة الإبداع؟ أم غارق في القلق؟
أربعة أنماط.. أربع حالات ذهنية
تعرّف الباحثة ميثو ستوروني في كتابها “مفرط الفعالية” أربعة أنماط لنشاط الموضع الأزرق، تقابلها حالات عقلية مختلفة:
- الغيار صفر – النوم: يكون النشاط شبه منعدم، مع إشارات نادرة تعزز تخزين الذكريات.
- الغيار الأول – الاستيقاظ والتشتت: نشاط منخفض، يتيح الوعي دون تركيز عميق.
- الغيار الثاني – التركيز المرن: النشاط في ذروته المثالية، يسمح بمعالجة المعلومات، والتنقل السلس بين المهام، وظهور لحظات الإلهام.
- الغيار الثالث – التوتر والقلق: ارتفاع كبير في النورأدرينالين يؤدي إلى فرط الانفعال وربما فقدان التركيز.
كيف يتحكم هذا الموضع بأدائنا؟
عندما يعمل الموضع الأزرق في الغيار الثاني، يتناغم الدماغ بكفاءة، وتكون قشرة الفص الجبهي – المسؤولة عن التفكير المنطقي وضبط السلوك – في أوج نشاطها. أما إذا زاد النشاط بشكل مفرط، كما يحدث تحت ضغط العمل أو القلق، فندخل الغيار الثالث، حيث يفقد العقل مرونته، ويطغى التوتر على التفكير.
من اضطراب فرط الحركة إلى لحظات “الاندماج التام”
في حالات مثل ADHD، يميل الموضع الأزرق إلى التبديل السريع بين الغيارات، مما يصعّب البقاء منتبهًا. أدوية مثل الريتالين تساعد على تثبيت هذا النشاط ضمن نطاقه الأمثل. وتشير دراسات حديثة إلى أن هذا الموضع مسؤول أيضًا عن حالة “الاندماج التام” أو Flow – تلك اللحظات التي تندمج فيها كليًّا في مهمة تنسيك الزمان والمكان.
هل يمكننا التدخل وتدريب هذا الموضع؟
نعم. يُظهر البحث أن الموضع الأزرق يمكن تدريبه باستخدام:
- التأمل والتنفس العميق: لخفض التوتر والنزول من الغيار الثالث.
- النشاط البدني المعتدل: كالتمشية صباحًا لنقل الدماغ من الغيار الأول إلى الثاني.
- الوعي بإيقاعنا اليومي: اختيار توقيت المهام الذهنية بناء على مستوى الاستثارة في اليوم.
- التحفيز العقلي في المهام المملة: مثل الاستماع لموسيقى أو بودكاست أثناء أداء الأعمال الرتيبة.
- تتبع اتساع حدقة العين: وهي أداة غير مباشرة لمراقبة نشاط الموضع الأزرق، وتُستخدم حاليًا في أبحاث متقدمة لقياس “التروس” العقلية.
خلاصة
بعد أكثر من قرنين على اكتشافه، بدأ الموضع الأزرق يحظى باهتمامه المستحق كعنصر أساسي في تحسين الأداء العقلي والتوازن النفسي. هو ليس مجرد مفتاح للتنبيه أو الخوف، بل منظّم داخلي يمكن تدريبه وتعديله. يكفي أن نلاحظ حالتنا الذهنية، ونتعلّم متى نرفع الغيار.. ومتى نُفرمل.