حين تسمع عن بلاد الرافدين لا يمكن لك أن تتخيل حال الجفاف في العراق، إذ تحوي البلاد نهري دجلة والفرات، العراق الذي يزخر بخيرات وموارد طبيعية هائلة، فمن النفط والغاز إلى الأرض الخصبة مرورا بالمعادن ووصولا إلى المياه، تشكل هذه الموارد الطبيعية الكنز الأكبر للعراقيين.
غير أن السنوات الماضية شهدت تراجع العراق اقتصاديا وزراعيا وصناعيا حتى وصل الخطر لملف المياه وتدفقها في نهري دجلة والفرات، فضلا عن استنزاف كبير للمياه الجوفية ما أثر على حياة العراقيين وتعثر وصول مياه الشرب لمنازلهم.
كل هذه المشكلات تعزى للعديد من الأسباب، فالعراق ومنذ عام 2003 لم يفلح في بناء أي سدود جديدة، فضلا عن التغيرات المناخية التي ألمت بكوكب الأرض وتعدي دول الجوار على الحصص المائية المتدفقة للعراق، ما جعل المنظمات الدولية تدق ناقوس الخطر يوما بعد آخر في ان السنوات القادمة ستشهد جفاف العراق.
الجفاف في العراق و موارد العراق من المياه
بحسب الجهاز المركزي للإحصاء في العراق (مؤسسة حكومية) يبلغ عدد الأنهار في البلاد 15 نهرا جميعها عذبة باستثناء شط العرب جنوبي البلاد، ويعد نهر دجلة أطول أنهار البلاد إذ يبلغ 1290 كيلومترا، يليه نهر الفرات بـ 1015 كيلومترا، بينما تختلف أطوال بقية الأنهار وفقا لموقعها ومناطق المنبع والمصب، كما يعد نهرا دجلة والفرات النهرين الوحيدين اللذين ينبعان من تركيا ويصبان في شط العرب جنوب البلاد مرورا ببقية المحافظات العراقية.
اما عن اعداد السدود في العراق، يقول وزير الموارد المائية الأسبق “لطيف جمال رشيد” إن عدد السدود الكبيرة في العراق يبلغ 7 سدود بطاقة تخزينية تصل لـ 35.4 مليار متر مكعب من المياه.
ويضيف أن أعداد السدود الصغيرة يبلغ 10 سدود على نهري دجلة والفرات، فيما يبلغ مجموع النواظم في المشاريع الاروائية في العراق (2351) ناظماً موزعة بين المحافظات كافة ومن مختلف الانواع ( رئيسية، وفرعية وقاطعة وذيلية) أضافة الى وجود (49) ناظماً كبيراً متفرعا من نهري دجلة والفرات وروافدهما وفروعهما كناظم الثرثار في سامراء وناظم الورار ضمن مشروع الحبانية ونواظم أخرى تأخذ مياهها من عدد من السدات كسدة سامراء وسد ديالى على نهر ديالى وسدة الكوت وسدة العمارة على نهر دجلة وسدة الرمادي والفلوجة والهندية على نهر الفرات.
وتستخدم هذه الناظم في تخرين كميات محدودة من المياه تقدر بملايين الأمتار المكعبة لكل منها وتستخدم في إرواء الأراض الزراعية، فضلا عن استخدامها لإيصال المياه للمنازل بعد تعقيمها في محطات المياه، بحسب رشيد.
كيف فعلها أهل الصحراء.. “صناعة الثلج” في أكثر البيئات حرارة
تناول الكثير من الفواكه والخضروات يقلل من مستويات التوتر
الجفاف العراق .. 2040
بحسب توقعات مؤشر الإجهاد المائي العالمي، فإن العراق سيكون أرضا بلا أنهار بحلول عام 2040، وأن النهران (دجلة والفرات) لن يصلا إلى المصب النهائي في الخليج العربي.
وتضيف الدراسة أنه في عام 2025 ستكون ملامح الجفاف الشديد واضحة جدا في عموم البلاد مع جفاف شبه كلي لنهر الفرات باتجاه الجنوب العراقي، وتحول نهر دجلة إلى مجرى مائي محدود الموارد خاصة في وسط وجنوب البلاد، بما في ذلك العاصمة العراقية بغداد.
معلومات صادمة تلك التي تكشف عنها مراكز الدرسات الدولية، إذ يبلغ إجمالي معدل الاستهلاك المائي لكافة الاحتياجات الصناعية والمنزلية والزراعية نحو 53 مليار متر مكعب سنويا، في الوقت الذي تقدر فيه كمية مياه الأنهار في المواسم المطرية الجيدة بنحو 77 مليار متر مكعب، أما في مواسم الجفاف فتنخفض إلى 44 مليار متر مكعب.
هذه الأرقام تعني أن نقص واحد مليار متر مكعب من المياه من حصة العراق المائية كفيل بخروج 260 ألف دونم من الأراضي الزراعية من حيز الإنتاج الفعلي، بحسب وزارة الزراعة العراقية.
من جهته، يقول الأستاذ المحاضر في كلية هندسة الموارد المائية بجامعة بغداد “حسين أحمد” إن العراق وعلى مدى العقود الماضية أخفق في وضع استراتيجيات تتعلق بالحفاظ على حقوقه المائية، خاصة مع تركيا التي أقامت العديد من السدود خلال السنوات الماضية وأدت لتراجع تدفق المياه لنهري دجلة والفرات.
ويضيف أحمد في حديثه لـ (نقطة علمية) أنه ومنذ الغزو الأمريكي عام 2003 وبسبب ضعف الحكومات العراقية المتعاقبة، لجأت إيران لتحويل مسار العديد من الأنهار تجاه الداخل الإيراني، الأمر الذي أدى لانقطاع المياه عن محافظات ديالى وواسط وميسان والبصرة والسليمانية، بحسبه.
وتشير الإحصائيات أن إيران ومنذ عام 1997 وحتى الآن عمدت لقطع المياه عن العديد من الأنهار الداخلة للعراق او غيرت مسارها نحو الداخل الإيراني بمجموع يصل لـ 11 نهرا أو زابا صغيرا (رافد مائي صغير).
وفي الوقت الذي تؤكد الحكومة العراقية أنها بدأت العديد من الخطط لمعالجة أزمة المياه، يشير مؤشر درجة الإجهاد المائي أن العراق بلغ درجة 3.7 من 5 ، لتكون البلاد ضمن قائمة الدول المُصنفة على أن ذات خطورة عالية فيما يتعلق بالشح المائي ومخاطره، ويتوقع المؤشر العالمي أنه بحلول عام 2040 ستصبح بلاد الرافدين أرضًا بلا أنهار بعد أن يجف نهرا دجلة والفرات تمامًا.
الجفاف العراق .. أسباب متوقعة
وبحسب دراسة أستاذ هندسة الموارد المائية العراقي “نضير الأنصاري” بجامعة (لوليو) السويدية المعنونة بـ (أزمة المياه الحالية في العراق وتأثيراتها البشرية والبيئية)، يقول الأنصاري “إن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من أكثر المناطق تعرُّضًا للتأثيرات المحتملة لتغير المناخ، وبالفعل تعاني المنطقة من الجفاف وندرة المياه وزيادة متوسط درجات الحرارة، وانخفاض هطول الأمطار”، بحسب تعبيره.
ويكشف الأنصاري أن تحليل سجلات هطول الأمطار ودرجات الحرارة في أجزاء مختلفة من العراق يؤكد وجود انخفاض مستمر في هطول الأمطار وزيادة في درجات الحرارة، مما يؤدي إلى انخفاض السعة التخزينية للخزانات (السدود) وبالتالي انخفاض الإنتاجية الزراعية، واستنزاف موارد المياه الجوفية بسبب قلة إمدادات المياه.
في الوقت ذاته، يشير تقرير خطة التنمية الوطنية العراقي إلى أن متوسط نصيب الفرد العراقي من المياه الصالحة للشرب يبلغ 397 لترًا في اليوم حاليا، بفجوة لافتة عن الحصة الواجب توافرها والتي تقدر بـ 450 لترًا لليوم.
في غضون ذلك، حذرت دراسة (التنمية والتغير المناخي) في العراق من أن التغيرات المناخية ستؤدي إلى انخفاض نصيب الفرد العراقي من المياه العذبة إلى نحوٍ غير مسبوق يقدر بحوالي 865 متر مكعب سنويا.
ليس المناخ وحده السبب في تراجع حصص العراق المائية، إذ وبالذهاب إلى الخبير في الموارد المائية “ليث محمد” فإنه يشير أن العراق خسر حتى عام 2018 ما نسبته 30% من كمية المياه المتدفقة التي كان يحصل عليها من نهرَي دجلة والفرات.
ويضيف محمد أن التقارير الرسمية العراقية الصادرة عن وزارة المواراد المائية تكشف عن ان العراق سيفقد خلال السنوات العشر القادمة ما يقدر بحوالي 50% من حصته المعهودة من مياه النهرين، لافتا إلى أن هذه النسبة هي حصيلة قطع كل من تركيا وإيران روافد النهرين دون ان يشمل ذلك الإهدار الماي الكبير، بحسبه.
جفاف العراق – معالجات ممكنة
قد يبدو وضع العراق للوهلة الأولى سوداويا فيما يتعلق بملف المياه والتحذير من الجفاف، إلا أنه وبالعودة إلى خبير الموارد المائية “ليث محمد” فإنه يرى أن لا شيء مستحيل في العراق في ظل توفر الإمكانيات المادية والبشرية.
ويعتقد محمد أن العراق يمكنه تدارك الوضع المائي من خلال اعتماد خطط خمسية وعشرية، لافتا إلى أن المعالجة السياسية للأزمة باتت مهمة الآن أكثر من أي وقت مضى، خاصة في ملف المفاوضات مع تركيا وإيران.
ويتابع محمد أنه ومن الناحية العلمية، فإن تركيا قد تبدو أكثر استجابة من إيران فيما يتعلق بملف المياه، إلا أنها قد لا تقدم أي تنازلات في ظل الوضع العراقي المائي الحالي، مشيرا إلى أن العراق يهدر كميات هائلة من مياه نهري دجلة والفرات بسبب عدم استغلال التدفقات المائية وذهاب كميات هائلة منها لتختلط بالمياه المالحة في الخليج العربي.
كما أن ملف سوء إدارة ملف المياه داخليا يعد سببا رئيسيا في أزمة العراق الحالية من المياه، كاشفا عن أن العراق الذي تجاوز عدد سكانه 40 مليون نسمة لا يضم إلا قلة قليلة من مشاريع إعادة تدوير المياه واستخدامها في الزراعة، لافتا إلى أن المياه المتدفقة في نهري دجلة والفرات حاليا ملوثة بصورة كبيرة، بسبب انسياب المياه الصناعية من المستشفيات والمصانع تجاه الأنهار دون أي ترشيح (فلترة).
على الجانب السياسي، يرى الباحث في الشأن السياسي العراقي “ذنون يونس” أن العراق يمتلك أوراقا سياسية مهمة للغاية في حال شرعت الحكومة العراقية في مفاوضات مع كل من تركيا وإيران.
ويتابع يونس أن العراق لديه أوراق تفاوضية أمنية واقتصادية مع تركيا، إذ أن ملف حزب العمال الكردستاني التركي المنتشر في شمال العراق (مصنف إرهابيا في تركيا) يعد ورقة رابحة في أي مفاوضات، خاصة أن الحزب يعد مشكلة أمنية مزمنة للجانب التركي، إضافة إلى أن حجم التبادل التركي مع العراق يناهز 20 مليار دولار سنويا، ويمكن استغلاله في مفاوضات المياه.
أما ما يتعلق بإيران، فيرى أن الملف الاقتصادي يعد عامل قوة للعراق، وأن الأخير يعد ثاني أكثر الدول استيرادا من إيران بعد الصين بما يقرب من 13 مليار دولار سنويا، ما يعني أن العراق وبتلويحه بالورقة الاقتصادية، فإنه يمكن أن يحقق الكثير في ملف المياه، بحسبه.
هي أسباب متعددة جعلت من العراق يواجه أزمة مائية كبيرة قد تكون أسوأ مما هي عليه الان خلال عقدين أو ثلاثة، في ظل وجود العديد من الحلول والاستراتيجيات التي تحتاج إلى حكومة عراقية تجيد اللعب مع الدولتين الجارتين تركيا وإيران، فضلا عن تحسين واقع البنى التحتية للمياه وخزنها داخليا.